إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات اجتماعية ونفسية / الأثر النفسي لتطبيق الحدود الشرعية









1

1. حدّ القَتْل

     وهو يُطبق في القتل العَمْد، ( والقتل العَمْد هو: أن يُقصد القتل، وباستخدام أداة مما يقتل غالباً كالسلاح مثلاً، فالقتل هنا يختلف عما عُرف بالقتل الخطأ، فالأول عمادُه النية والقصد، أما الثاني، فلا نية فيه ولا قصد، كمَن يضرب بيده، فتُفْضي ضربته إلى القتل، مع أن اليد عادة ليست من أدوات القتل)، إذْ إن من يَقصد ويتعمّد أن يَقْتل، إنما هو، ضمناً، يقبل أن يُقْتل، لأن الأصل هي المساواة بين البشر، من حيث حق الوجود والحياة والحفاظ على النفس. وقتْل إنسان هو أفظع جُرم، يمكِن أن يرتكبه إنسان في حق نفسه، وفي حق المقتول، وفي حق المجتمع، لأنه يطلِق العنان لطاقة التدمير في داخله، أن تُمْحُو وجود إنسان آخر. وهذه الطاقة التدميرية، لو أُطلِق لها العِنان، على مستوى المجتمع، لانهدمت أسُس المجتمع، وضاعت معالم حضارته، وأصبحت كل نفس مهدَّدة بالفَناء من قِبَل آخر، عدواني النزعة والسلوك. وهذا القاتل، قبل أن يصير قاتلاً، كان لديه سيطرة على طاقته العدوانية ( التدميرية )، تَمْنعه من قَتْل الآخرين، تشبه حاجزاً نفسياً داخلياً، يحمي البشر منه. هذا الحاجز هو جزء من القِيم والضمير. ولكن حين يقصد القتل مرة واحدة، ويكسر هذا الحاجز في داخله، يصبح القتل لديه سهلاً، وتتعدد ضحاياه من البشر. وقد كان في بعض القرى أناس يحترفون القتل، لأن حاجز السيطرة في داخلهم قد انهار، وماتت لديهم أي قيمة عُليا، تَمْنعهم من التفكير في إنهاء الآخر وتدميره. بل قد يصبح القتل في هذه الحالة "احترافاً"، لذلك سُمِّي صاحبه بـ "المجرم المحترف".

     لذلك، كان الحَلّ الأمثل لهذا القاتل المتعمد، هو قَتْله، قِصاصاً لِمَا اقترفت يداه. وعلى الرغم من كَوْن ذلك حفاظاً على المجتمع من شروره، وأخْذاً لحقِّ من قتَله، إلاّ أنه، في الوقت عينه، تطهير له من الشعور بالذَّنْب، الذي قد يستشعره يوماً ما، حين يَصْحو ضميره، وقد ينتحر وقتها. ويقول المولى ـ عزّ وجلّ ـ في كتابه الكريم: ]وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لِعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ (البقرة: 179).

     ويقول الأستاذ الدكتور محمود عبدالرحمن حمودة، أستاذ الطب النفسي: " حين جلست إلى قاتل محترِف، بعد أن تاب، أخبرني أن أول مرة قَتَل فيها، كانت أصعب مرة، بعدها أصبح ينظر إلى الأجر الذي سوف يتقاضاه، لا إلى الضحية ومعاناتها. لقد شبّه نفسه بأنه أصبح آلة قَتْل، لا تَحْكُمه المشاعر ".

     ويقول العزيز الحكيم في القرآن الكريم: ]ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً متَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَاِلداً فِيهَا وغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [ (النساء: 93). ويقول المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: ]   أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاء[ (متفق عليه). ويقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ:]لنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا[ (صحيح البخاري، ومسند أحمد).

     أمّا في القتل الخطأ، وشبه العَمْد، فإن الأمر يختلف، إذْ إن القصد غير موجود، ولا الأداة التي تقتل غالباً ( فالقتل الخطأ لا يوجد فيه قصْد أصلاً، كأن يقصد صيداً، فيصيب إنساناً فيقتله. أمّا شِبه العَمْد، فهو أن يقصد القتل غالباً ). لذلك، انتفى القصد المرتب، الذي يستلزم إحضار أداة القتل، بل انتفي القصد أصلاً، وهو ما يعني أن القتل حدث كحالة أو رد فعلٍ مفاجئ، من دون إعمال كافٍ للعقل. فقد تكون لحظة انفعال، أفلتت خلالها سيطرة القاتل على سلوكياته، فاندفع في فعل القتل بأداة لا تقتل غالباً. وعلى الرغم من أن هذا الشخص القاتل، قد يكُون لديه جهاز للقِيم، وضمير يَحْكُم تصرفاته في المواقف الأخرى، ولكن تَنقصه السيطرة على سلوكياته في لحظة الانفعال، وليس لديه خلل عقلي. لذلك، كان عليه أن يدفع دِيَة باهظة لأَهْل القتيل، وعليه كفارة، تطهيراً لنفسه من الشعور بالذنْب، الذي اقترفه في حق نفسه، بأن قبِل، في لحظة انفعال، أن يدمر حياة إنسان آخر مثله. ويقول الدكتور حمودة : " لا أنسى تلك السيدة، التي حضرت تشكو أعراض اكتئاب نفسي، شديدة، بدأت لديها قبل ستة أشهر، في صورة ضِيق وملل وحزن، وكراهية الحياة، وشعور شديد بالذنْب، وامتناع عن تناول الطعام، ورغبة في قَتْل نفسها. واتّضح من الجلسات النفسية، أنها قَتلت، من دون أن يعرف أحد أنها قاتلة. فلقد طلبت منها جارتها أن تسترها، وتسعف معها ابنتها، التي حملت سِفَاحاً. وكانت الجارة قد أخفَت عن زوجها وأولادها سِرّ ابنتها، حين عرفت به في الشهر السادس، وانتظرت حتى اكتمل الحَمْل، وجاء وقت الولادة، واستدعت جارتها ( المريضة ) لتساعدها. وحين وُضع المولود، وقبْل أن يتنفس، كتمت السيدة ( المريضة ) أنفاسه، خوفاً من أن يخرج بكاؤه، ويسمعه والد الفتاة وإخوتها، الذين لا يَدْرون ما يحدث في البيت، داخل حجرة الفتاة. ولم تَدْرِ ( المريضة ) ما فعلت، إلاّ بعد أن تعطلت واختفت معالم الحياة في الوليد، بفعلها، فاسودت الدنيا في عينيها، حين أدركت حقيقة ما فعلت من قَتْل لنفس حرّم الله قَتْلها إلاّ بالحق، فكان الشعور بالذنْب، الذي لم تستطع البَوح به، إلاّ للطبيب النفسي، والذي كان يكمُن خَلْف الاكتئاب الشديد، الذي كانت تعانيه".

     أمّا القتل الخطأ، فهو إزهاق الروح من دون قصْد، أصلاً، ومن طريق الخطأ غير المقصود. مثل الشاب الذي كان يركب، مع أخيه، قطاراً ذا أبواب آلية، وكان يستند بظهره إلى أحدها، وأخوه يتدلى إلى الخارج ممسكاً بيديه أحد الأعمدة. وعندما تحرك الشاب إلى الداخل فجأة، اندفع الباب الذي كان يستند بظهره إليه فطاشت يد أخيه، ولم يستطع إمساكها، وسقط الأخ ومات. ولم يتهمه أحد، ولم يكُن يقصد ما حدث، ولكن قتْل أخيه، من جراء خطأ شارك هو فيه، أشعره بالذنْب، وأصابه الاكتئاب، وفشِل في دراسته الجامعية عامين متتاليين، إذْ كان طَيف أخيه يطيح بتركيزه وبقدرته على الاستذكار، وكان شعوره بالذنْب يقتله كل يوم، مما دفعه إلى طلب العلاج النفسي.

     إن القتل الخطأ يُوجِب الدِّيَة، ولكن ـ في هذه الحالة ـ لم يطالبه أحد بها، فالقتيل أخوه، ومن ثَمّ، كانت الكفارة، التي وجبت عليه، تخفيفاً لهذا الشعور بالذنْب، الذي لم تخِفّ حِدّته إلاّ بعد عدة جلسات من العلاج النفسي.