إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
 

الوثيقة الرقم (1)

كلمة الرئيس صدام حسين إلى الشعب العراقي
يوم الثلاثاء 17 يوليه 1990
بمناسبة الذكرى الـ 22 لثورة 17 ـ 30 يوليه 1968 العراقية
حول المؤامرة النفطية الخليجية(*)

بسم الله الرحمن الرحيم

         أيها الشعب العراقي العظيم، يا أبناء الأمة العربية المجيدة، عندما نقف اليوم، مستذكرين ومعاهدين على تجديد الهمّة والعزم، لنمضي إلى الأمام، إنما نعلن مجددين الشكر لله والابتهال إليه تعالى، بأن يحفظ شعبنا وأمة العرب، من كل سوء، وأن يديم على العراقيين الأماجد نعمة الإيمان والسلام والعز.

         وعندما يكون الحديث عن ثورة 17 ـ 30 تموز العظيمة، فإنه لا يقتصر على سجل أيام النضال والجهاد، أو على مصاعب الطريق، الذي ارتقى وأوصل إليها فحسب، وإنما يتعدى ذلك، إلى سجل طويل، وإن بدأته أيامها الأولى، فإن الترنم بمعاني الأيام اللاحقة ومنجزاتها، هو الشاهد العظيم على نبل مقاصد أيامها الأولى، وعلى جدية الجمع المناضل، في سعيه الحثيث لتطبيق مبادئ أيام الجهاد.

         ومن ذلك، لا يغدو الحديث عن الثورة مجرد التمحيص بسجل صفحتها الأولى، حيث غيّر الثوريون بين 17 ـ 30 تموز، نظام الحكم القديم، واستبدلوه بحكم الثوار المجاهدين المؤمنين من أبناء الشعب، وإنما يتعدى ذلك إلى السجل العظيم لحياة الشعب الجديدة، التي ترسخت أركانها وارتفع بنيانها، حتى صارت أهم ما في حياة الأمة ككل، ودليلها على نفسها وقدراتها، وعلى إمكانية الإمساك بمعاني الحاضر وأهداف المستقبل: وإن حديثاً من هذا النوع يصعب عليه، عن طريق خطاب في هذه المناسبة، أن يلم بكل الذي حصل، وكيف تم ذلك، وما هي الصعوبات والتضحيات التي تحققت، لكي تغدو مفرداته، كما هي الآن في حياة العراقيين والأمة، ولكن نتيجته هي ما يتحدث عنها القاصي والداني، الأعداء والأصدقاء، وحسبنا أن شعب تموز العظيم، شعب العراق، صاحب حسب المجد والتراث العريق، يتربع باقتدار على ناصية المجد فيه، ويتجه إلى الأمام، بثبات واقتدار، بعيون لا تنام على ضيم، أو يؤجل ما يقتضي الحضور من مهامه، أو يتقاعس دون واجب، ينتظر الإنجاز. يرفل بعز يتسع ويتعمق. وبازدهار يعلو بنيانه وسياجه، وبمبادئ وإنسانية، فواحة بعطرها وندى أريجها، وبغد تتصل شمسه بقمر حاضره، وبهمّة تعلو بمحفزات الممكن، الذي أزاح المستحيل عن أرضنا وحياتنا الجديدة.

         في ذكرى تموز، هذا الحدث التاريخي العظيم، نقف كل عام لنسجل، ما بدا لنا أنه ممكن، وما حققناه منه، وما لم نحققه، رافضين المرفوض ليزاح عن الطريق، ومشيدين فوق أساس المقبول بناء صرح جديد، مراجعين بمسؤولية الثوار وضميرهم، أحوال الشعب والأمة، محددين الأهداف المناسبة، لما هو قادم من السنة، التي تلي، داعين الله تعالى التوفيق لما يرضيه.

         وقد كانت السنة الماضية، السنة الثانية والعشرون من مسيرة ثورة تموز العظيمة، مسيرة حافلة. هي مسيرة الأعوام الماضية، بالأحداث، والتطورات، والمنجزات. وكان بين الأحداث والتطورات ما هو إيجابي، وبينها ما هو سلبي، وهذا هو دين الحياة ومسار قوانينها. ويبقى الترجيح لما هو إيجابي فيها وإمكانية التأسيس عليه، هو من مهمة الشعب وقيادته. وهذه هي مهمتكم أيها العراقيون الأماجد، وتعرفون أننا لم ولن نتخلى عن مهمة ومسؤولية وشرف قيادة جمعكم العزيز، إلاّ أن يشاء الله، ليعلو بناء مسيرة ثورة تموز، ولتقر عيون الشهداء وأبناء الأمة العربية، بخطو جمعنا العظيم، وإنجازاته الكبيرة.

         لقد استقر، في العام الماضي، وضع وقف إطلاق النار، الذي أردناه منذ البداية، مدخلاً إلى السلام الشامل والدائم مع إيران. وإن إيمان العراق العميق بالسلام، ودعوته المخلصة إليه وإلى علاقات حسن الجوار، وسلوكه الجاد المثابر المنسجم مع هذه المبادئ، جعله أنموذجاً يحتذى به، ووجدت هذه المعاني طريقها إلى نفوس الشعوب الإيرانية، وعقول المسؤولين في إيران، أو هكذا يبدو لنا حتى الآن، فقد استجابوا، من حيث المبدأ، لمبادرتنا، عندما كتبنا إلى القيادة الإيرانية، مقترحين إجراء لقاء مباشر، على صعيد القمة، لنعمل على طي صفحة الماضي، ولنحقق السلام الشامل والدائم. وبدأت اتصالات مباشرة بين الطرفين على مستوى الدبلوماسيين، وعلى مستوى وزراء الخارجية، نأمل أن تمضي إلى المزيد من التقدم باتجاه السلام، إن شاء الله.

         وفي حياتنا الداخلية، استمرت المسيرة في العمل والبناء والتطور، بالرغم من ضيق ذات اليد، للأسباب المعروفة. وأظهر العراقيون في جميع ميادين الحياة، عزماً قوياً، وقدرة متوثبة على مواصلة الإنجاز والإبداع، بما يتناسب مع تاريخهم العريق، ودورهم الحضاري الإنساني، ومنبتهم القومي وطموحهم المشروع، نحو الرقي والتقدم والعزة.

         وكان، في مقدمة المنجزات، تلك التي يحققها المجاهدون في التصنيع العسكري، والتي نقلت العراق إلى مستوى عال في التطور والتقنية العلمية والصناعية، أصبح مثار إعجاب أبناء الأمة، وموئل أملهم، في الدخول بشكل جدّي، وفي هذا العصر المتطور، في تحقيق توازن القوة مع الطامعين المعتدين.

         ويتميز هذا العام في المسيرة، بأنه العام، الذي عكف فيه مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية للحزب، على إعداد مشروع الدستور، الذي تحدثنا عنه في العام الماضي، وقد تم إنجاز المشروع فعلاً، وإن من أهم الجوانب الجديدة، التي يحتويها، وهي كثيرة، انبثاق مؤسسة تشريعية جديدة تعمل، إلى جانب المجلس الوطني القائم، كما ينص الدستور، على انتخاب رئيس البلاد عن طريق الاقتراع السري المباشر من قِبَل الشعب، وهو ما يحصل، لأول مرة في تاريخ العراق القديم والحديث، وهو إنجاز تتفرد بتسجيله ثورة تموز، إلى جانب تفردها بالخير والعمل العظيم، الذي شمل حياة العراقيين بصورة عميقة، وانعكس على حاضر العرب ومستقبلهم. وازداد الدستور الجديد وضوحاً، وتعمقت المعاني في تحديد العلاقة بين مؤسسات الدولة ومسؤولياتها، وبينها وبين الشعب، واتضحت، أكثر من ذي قبل، حقوق وواجبات الشعب في كل ميدان من ميادين الحياة، من حرية الرأي والاعتقاد والتعبير عنهما، إلى ممارسة الملاك الأوسع لمسؤوليته في قيادة المجتمع وخدمته.

         كما يتضمن الدستور، الأسس والقواعد التي تنظم الحياة السياسية في البلاد، على أساس مبادئ الثورة، والمصلحة الوطنية العليا، ومتطلبات التطور في المجتمع.

         وسينشر الدستور في وسائل الإعلام في وقت لاحق، لكي يناقش من قِبَل الشعب. وقد بدأت منذ أيام، مناقشة المشروع في الهيئات التي قرر مجلس قيادة الثورة، والقيادة الاطلاع على رأيها وملاحظاتها، وذلك وفق برنامج مُعَدّ. كما سيجري الاستفتاء على الدستور، وستجري عملية انتخاب رئيس الجمهورية، خلال الأشهر المقبلة، وفي توقيتات ستعلن في حينه، إن شاء الله.

         أيها العراقيون الأماجد، يا عزنا وعز العرب، ويا عوننا بعد الله على الملمات، أيها العرب في كل مكان. إن العالم يشهد أحداثاً، ومتغيرات كبيرة، وذات نتائج، تمتد في تأثيرها على مساحة الإنسانية ككل، وقد كانت دائماً موضع اهتمامنا، وسبق لنا أن تحدثنا عنها في اللقاءات العربية الكبيرة، التي حصلت، خلال العام المنصرم، في قمتي مجلس التعاون العربي، في صنعاء في أيلول (سبتمبر) 1989، وعمان في شباط (فبراير) 1990، وكذلك في قمة العرب التي انعقدت في بغداد في أيار (مايو) 1990، ولا أضيف جديداً إلى ما قلته في تلك المناسبات، وما أوردته من تحليل واستنتاج، توخياً لما يخدم الأمة العربية، ويعزز يقينها بحقوقها، ويجلي الصدأ عن قدراتها، ويحدد، وبما لا يقبل التداخل، خط مسارها عن مسار أعدائها والطامعين، من أجل تعزيز موقع الأمة العربية، ودرء الأخطار المحدقة بها، وتحقيق أهدافها النبيلة في الاستقلال التام، والرقي، والتقدم، والازدهار.

         إن من أهم وأخطر الأحداث، خلال الفترة الماضية، الحملة الواسعة المدبرة، التي تشنها الدوائر الإمبريالية والصهيونية، الرسمية وغير الرسمية، ضد العراق بصورة خاصة، وضد الأمة العربية بوجه عام.

         لقد بدأت هذه الحملة عندما تأكد للإمبريالية أننا انتصرنا في الحق، وأننا له مجندون، وأن هذا الانتصار سيدخل في سجل الأمة العربية ككل، وسيكون، هو وأسبابه، مرتكز العرب وملهمهم في المنازلة ضد إسرائيل الغاصبة المعتدية، وضد كل معتد أثيم، وأنموذجهم القريب، الذي يظهر لهم ما هو إيجابي في قدرات العرب وشخصيتهم، وعندما تأكد لها أيضاً، اقتدارنا الاقتصادي والعلمي، وما حققناه في ميادين التصنيع العسكري، وهو حق من حقوقنا المشروعة الثابتة كشعب ذي حضارة عريقة، ودور إنساني يطمح إلى الرقي والتقدم… شعب يعتز بنفسه وبأمته العربية، ويمتلك كل الحق بامتلاك وسائل الدفاع عن أمنه واستقلاله، وأمن الأمة العربية، وعن حقوقه وحقوق أمته.

         لقد أثارت هذه المنجزات حقد الدوائر الإمبريالية والصهيونية، فاستخدمت كل وسائلها للنيل من سمعة العراق ومقاصده، وفي محاصرة وسائل ومصادر تقدمه العلمي والصناعي والاقتصادي، ولم يبق في جعبتها ما لم تستخدمه، غير العدوان العسكري المباشر.

         وكعادتها راجعت الإمبريالية سجلها المشؤوم ضد الأمة العربية، لتختار أصحاب الأدوار الشريرة، والطامعين الغادرين، كي تستخدمهم في العدوان على العراق، فلم تنس أن إسرائيل، التي اغتصبت فلسطين الحبيبة، وقدسنا الشريف، هي خير مركز طوارئ جاهز، كي يطلق سهامه العسكرية ضد الأمة العربية، ومركز الإشعاع فيها، العراق العظيم، فراحت تنسق حملتها السياسية والإعلامية والعسكرية مع إسرائيل؛ لتدبير العدوان المباشر المرتقب عليه، وصارت الدوائر الإمبريالية الغربية والصهيونية تدعو، علناً، وتحرض، بقوة وحقد وإصرار، على توجيه ضربات عسكرية، إلى المواقع الحيوية في مركز النور العلمي في العراق، ومراكز بحوثه وعناصر صناعته العسكرية، فبان بذلك ما يكفي من المكر السيئ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين. صدق الله العظيم.(*) وكما هو عهدكم بنا، عندما تتعرض المبادئ والقيم والمصالح الوطنية والقومية العليا للخطر، فإننا ننتخي للمهمة، بعد أن نتوكل على الله، ونتحزم بالأقربين، ريثما يستنفر الخيرون من أبناء العم من الغيارى في عائلة العرب الكبيرة. وهكذا كان الذي يجب أن يكون، حيث انتخى العراقيون النشامى؛ ليعلنوا أن لا خوف بعد اليوم، والمنية ولا الدنية، واستقبال الخطر خير من استدباره، ولا غير هذا، غير المذلة وتلقي الضربة والعار، فأطلقنا تحذيرنا المعروف، في الثاني من نيسان، وأتبعناه بما يؤكده ويوضحه، ليكون مفهوماً للإمبريالية ومخالبها الشريرة في المنطقة، وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني، من أن عراق عام 1990، وما بعده، هو غير عراق عام 1981، عندما ضرب الإسرائيليون مفاعل تموز العلمي المخصص للأغراض السلمية، بينما كنا في وضع، يجعلنا منشغلين في حرب ضروس مع إيران، ثم جاء الدور، ليظهر العرب مجتمعين بأنهم في عام 1990 وما بعده، لن يكونوا كما كانوا قبل هذا التاريخ، فكانت قمة بغداد وقراراتها.

         وفي قمة بغداد، كانت الدروس غنية للعرب وللآخرين، إذ رسمت قرارات القمة خط ومسار الموقف العربي الجماعي، فبان للسيئين والمترددين في العالم، أن حال العرب هو غير ما تمنت الدوائر الإمبريالية والصهيونية، وما ظنت وتوقعت، فخابت آمالها، وفترت همتها، من غير أن تنتهي أحقادها وأطماعها، وسعيها إلى ما هو جديد شرير، يقسم العرب، ويضعف همتهم ورؤيتهم.

         أيها العراقيون، والعرب حيثما كنتم. إن الحملة التي تشنها الأوساط الإمبريالية والصهيونية ضد العراق والأمة العربية، وسياسة المحاصرة الاقتصادية والتقنية، تذكرنا بالحملة الصليبية ضد الأمة العربية في فلسطين. غير أن هذه الحملة لا تنسينا الحقيقة التاريخية المعروفة، من أن الغلبة في النهاية كانت للعرب، نتيجة اصطدام الجمعين، وأن صلاح الدين كان قائد جمع العرب، وهو أحد النماذج والرموز، التي نقتدي بها، في دروس المنازلة والقيادة، إلى جانب الرموز والنماذج العربية الكريمة الأخرى.

         لقد تجلت الأمة العربية، كما هو شأن الأمم الأصيلة، لترتقي بموقفها الموحد إلى ما أعلن عليكم من قرارات، في قمة بغداد. انجلت عنها غمامة التمزق والتشتت، عندما رسمت، بإرادتها، بداية الصائب من خطواتها، على طريق عمل مشترك، يعم خيره الأمة، ويرد عنها كيد الأعداء، وأحيت بذور الخير والمحبة فيها، الأمل والتطلع لمنع الأجنبي من الاستهانة بها، واغتصاب المزيد من حقوقها، ووضع البدايات العملية، وخلق الأجواء المناسبة؛ لاسترجاع المغتصب من حقوقها أيضاً. ولكن وما إن انفضت قمة بغداد واتضحّت قراراتها، حتى ذرت بذور الشر قرنها، في محاولة منها لتجتث ما ازهرت وأورقت عنه بذور الخير.

         إن القوى الإمبريالية والصهيونية لم تستخدم، في حملتها الأخيرة، السلاح حتى الآن، لتقتل به أبناء الأمة، ولم تهدد بالأساطيل والقواعد الجوية المنتشرة في العالم وفي المنطقة، كما يفعل عادة مغتصبو الأرض ومنتهكو الكرامة، والسيادة العربية، ممن وقفت قمة بغداد في وجههم، ولكنها بدأت تمارس القتل وإضعاف القدرة، التي تحمي الكرامة والسيادة، بأدوات أخرى وبأسلوب آخر، يناسب اختصاص تلك الدوائر وميدان تأثيرها، وفق أسلوب أخطر، من حيث نتائجه، من الأسلوب الأول المباشر. إنه الأسلوب الجديد الذي ظهر من بين صفوف العرب، والذي يستهدف قطع الأرزاق، بعد أن تم تطويق الأسلوب الأول، الذي كان، ومنذ زمن بعيد، يستهدف قطع الأعناق.

         وعندما يستهدفون قطع الأرزاق، قد تتيبس شجرة الحياة من الجذور، وعندها تذبل الأغصان والأوراق، حتى تغدو حطباً، بعد أن تفقد نسغاً أساسياً من الحياة. وبذلك تمني الصهيونية والإمبريالية نفسها بأنها ستنجح، من خلال هذه الوسيلة، حيث تفشل وسائلها التقليدية، فيتحقق هدفها بتوقف التقدم العلمي والتقني في العراق، في جوانبه المدنية والعسكرية، ويتحقق، عند ذلك، هدف الحملة، التي فشل فيها الأعداء بأسلوبهم التقليدي المباشر، بأساليب جديدة ينفذها عرب أفراد، وربما دول في المنطقة. وأعني بذلك السياسة البترولية الجديدة، التي يتبعها منذ حين، بعض الحكام في دول الخليج، تعمداً في تخفيض أسعار النفط، بدون أي مسوغ اقتصادي، وعلى الضد من إرادة غالبية المنتجين في الأوبك، وعلى الضد من مصلحة الأمة العربية.

         وعلى سبيل المثال، فإن انخفاض دولار واحد في سعر برميل النفط، من جراء هذه السياسة، يؤدي إلى انخفاض ألف مليون دولار من عائدات النفط سنوياً، وإن تخفيض سعر النفط، عن السعر، الذي كان سائداً قبل وقت ليس ببعيد، وهو 27 ـ 28 دولاراً، إلى الأسعار المتدهورة، التي وصل إليها سعر البترول حالياً، أدى إلى خسارة العراق أربعة عشر مليار دولار سنوياً، في الوقت، الذي تحل فيه بضعة مليارات من الدولارات الكثير مما هو موقوف ومؤجل من حياة العراقيين، هذا الشعب المجاهد، الذي خاض بحور الدم، دفاعاً عن كرامته وحريته وسيادته وأمنه، وحرية وسيادة الأمة العربية.

         وحول خفايا وأبعاد ومرامي هذه السياسة المخربة، لا بد أن نشير إلى ما لم يعد سراً. ذلك أن حاجة الولايات المتحدة إلى استيراد النفط تتزايد بمعدلات كبيرة، تتناسب مع حاجتها المتنامية، وقد تكون حاجتها الأساسية إليه أكثر بكثير مما نحن مطّلعون عليه، وأن بترول الشرق الأوسط، والعربي منه بوجه خاص، هو المرشح لسد احتياجاتها، وبعد أن تهيأت أمامها الفرصة، تصرّ الولايات المتحدة على العمل، للإمساك بموقع الدولة العظمى الوحيدة من غير منازع، ليس الآن وإلى وقت لاحق ترى فيه أفق أجله، وإنما، وكما هو شأن الحالمين لتحول، حلمها هذا إلى واقع يطول وقته، ولا تريد له حدوداً نهائية. ولكي يتحقق لها ذلك، تعمل على ضمان تدفق النفط إليها بأبخس الأسعار، والتحكم فيه وبمصير مالكيه، لتتحكم فيما بعد بمصير مستهلكيه الآخرين أيضاً، وبالذات دول أوربا واليابان، وربما الاتحاد السوفيتي، في وقت لاحق، إذا ما أصبح هو الآخر مستورداً للبترول.

         ولكي تتحكم أمريكا بمصائر منتجي البترول، يقتضي أن لا تسمح بنمو إمكاناتهم المادية، ومصادر ثروتهم، بما يتيح لهم فرصة المناورة الطبيعية في العلاقة بين المالك البائع، وبين المشتري. ولأن العدوانية الإسرائيلية وسياسة التوسع باقية، يضاف إليها ما تقتضيه أهداف الدولة الأمريكية العظمى في المنطقة، فإن أمريكا حريصة على أن تحقق خزيناً إستراتيجياً متزايداً، لتضمن كل تلك الأهداف، وفي مقدمتها التحكم بمتى وكيف تثير أو تسمح بإثارة الحروب والفتن، وكل ما يضع المنطقة في حلق ذئب… ومتى وكيف توعز باستقرارها إلى حين.

         ثم إن المخزون من البترول، إذا ما تم شراؤه بأقل من قيمته، فإن ثقله على خزينة أمريكا لن يكون كبيراً، كما لو تم شراؤه بالقيمة، التي يساويها حقيقة، وإن تلاقي مصلحة المضاربين في أسواق البترول من الأمريكان، لشراء النفط عندما ينخفض سعره وخزنه، وعرضه للبيع عندما يرتفع سعره، مع سياسة بعض تجار البترول والساسة من العرب، وبعضهم من وزراء البترول، أو أعلى منصباً منهم، هي من أخطر حلقات هذه السياسة المخربة.

         إن هذه السياسة الخطيرة، إن سمح لها بالاستمرار، ستعني أن الفائض من أموال العرب، الناجم عن فائض الأموال المتأتي من إنتاجهم أكثر من حاجتهم، سيتراكم في خزائن أميركا، فضلاً عن أن قيمته ستتآكل مع مضي الزمن، وسوف يبقى هناك أسير الأهداف الأمريكية السياسية والمالية، وإن توفير خزين نفطي كبير في أميركا، يمكنها مع إسرائيل، ومن يلتقي مؤقتاً مع سياستها، من التلاعب باستقرار المنطقة وأمنها، وستسعيان إلى إشعال الحروب، وإخماد شرارها، مؤقتاً، وفق السياسة المناسبة لهم، من غير أن ينتابهم القلق من النتائج السلبية، التي تصيب بالاحتمالات الخطرة، تدفق البترول إلى أسواق أميركا والعالم، وسيمكن أميركا من التحكم في أسعار البترول، بل إخضاعه إلى نوع من التذبذب هبوطاً وصعوداً، بما يتعب اقتصاديات الدول العربية، ويشل قدرتها على وضع سياسة تنموية مستقرة، أو سياسة مستقرة للإنفاق الجاري، ولكل ذلك انعكاساته الاقتصادية والمالية السلبية الخطيرة، يتبعه ويرتبط به انعكاسات اجتماعية وسياسية سلبية خطيرة، تضع العرب في دوامة الاضطراب المستمر، وعدم الاستقرار، ومن ذلك، يتبن أن السياسة التي يتبعها بعض الحكام العرب، هي سياسة أمريكية. وبإيعاز من أمريكا وبالضد من مصالح الأمة وشعوب المنطقة، وليست سياسة وطنية، وهي مناقضة لمصلحة الجميع، ومصلحة الأمة العربية، بل هي معادية للأمة العربية، لأنها تضرب أمنها القومي ومصالحها في الصميم، بعد أن تُجرد الأمة من عناصر قوتها، وتُمكّن الطامعين والأعداء من التحكم بعناصر تلك القوة.

         إن هذه السياسة خطيرة إلى الحد، الذي لا يمكن السكوت عليه. ولقد ألحقت بنا ضرراً جسيماً، وتلحق بالأمة ضرراً جسيماً، وليس رفع الصوت هنا ضد هذا المنكر هو أقوى الإيمان، إذا ما استمر المنكر على ما هو عليه، ولأن العراقيين، الذين أصابهم هذا الظلم المتعمد، مؤمنون، بما فيه الكفاية، بحق الدفاع عن حقوقهم وعن النفس، فإنهم لن ينسوا القول المأثور "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق". وإذا ما عجز الكلام عن أن يقدم لأهله ما يحميهم، فلا بد من فعل مؤثر، يعيد الأمور إلى مجاريها الطبيعية، ويعيد الحقوق المغتصبة إلى أهلها.

         إن السياسة البترولية، والموقف من الصراع العربي الصهيوني، والنضال لتحرير فلسطين، ستبقى هي المقياس الأساس، الذي من غيره لا وطنية صادقة، ولا قومية حقيقية للمدعين، وإن هذا سيكون من بين أهم المعايير التي يتضح منها ما هو غث وما هو سمين في السياسات، وما هو أصيل أو مقطوع الصلة عن الأصل، وما هو واضح وأمين أو مشبوه ومراءٍ، وإن أبناء الأمة، الذين ألحق الدجل والدجالون بهم أشد الأذى، حتى ثخنت وتعمقت جراحهم وازداد نزيفها، قادرون بحصافتهم، إذا ما راقبوا مواطن الغدر والضعف، أن يتبينوا، وإذا ما تبينوا ما هو سوء، فليس أكثر أذى للأمة، وأخطر على مستقبلها، بعد حاضرها، من سكوتهم، وإننا سنكون في طليعة من يكشف التآمر والمتآمرين، ويعمل على طرد الضعف من ميادينها، ويساعد الضعفاء على تجاوز ضعفهم، إذا ما أبدوا استعدادهم لقبول العون، سواء عن طريق النصح، أو بوسائل أخرى.

         أيها الإخوة، عندما نضطر إلى هذا القول، فإننا نشعر بالتمزق من داخلنا، ونعايش الحزن إلى أقصى معانيه. إذ إننا لم نكن نتمنى أن نتحدث عن حقوق مغتصبة، والمغتصب فيها بعض العرب وإنما كنانتمنى أن نركز في حديثنا، كما هو شأننا دائماً، على الحقوق التي اغتصبها الأجنبي، فحسب. ولكن أصحاب السوء هم وحدهم، الذين يتحملون أمام الله، وأمام الأمة، نتائج سيئاتهم، التي أظهروا من مخزونها ما لم نعرفه عنهم، من قبل. أو كنا نمني النفس بما هو غير هذا.

         فهم، بدلاً من أن يكافئوا العراق، الذي قدم لهم ما قدم من زهرة أبنائه، لتبقى بيوت أموالهم عامرة بالمزيد المضاف مما هو مكتنز، والذي لولا العراق لأصبح بأيد أخرى، أساؤوا إلى العراق بالغ الإساءة. وبدلاً من أن يكافئوا العراق على مبادئه في الأخوة، أساؤوا فهم هذه المبادئ المخلصة، وغرزوا الخنجر المسموم في الظهر، في الوقت الذي يواجه فيه العراق الأعداء الأجانب، ليذود عن الأمة، ويبعد عنها وعنه طعنات جديدة.

         اللهم، ألهمنا الصبر إلى الحد، الذي ليس أمام الصابرين غير ما تعتبره مشروعاً وصحيحاً، يوم يفقد الصبر قدرة التأثير. اللهم، اقتل بذور الشر داخل نفوس حامليها، ليتمتع العرب ببذور الخير داخل أنفسهم. اللهم، اشهد أنني قد بلغت.

         تحية لشعب فلسطين المجاهد، وتحية لكل العرب الشرفاء الذين يرفضون ما هو مرفوض، ويقبلون مع العز والكرامة والسيادة والعدل ما هو مقبول، والرحمة والمجد لشهداء العراق والعروبة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.