إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء

 



كلمة الملك سعود بمناسبة ذكرى الجلوس على العرش
(أم القرى، عدد خاص، بمناسبة ذكرى جلوس الملك سعود على العرش، في 29 ربيع الثاني 1378 الموافق 12 نوفمبر 1958)

          نص الكلمة الملكية الكريمة التي وجهها حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم بمناسبة ذكرى جلوس جلالته على عرش البلاد

          أحمد الله سبحانه، وأسأله دوام النعمة والتوفيق لكل خير، اللهم كما زودتنا نعماً فألهمنا شكراً، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، رزقنا الله اتباع شريعته، والعمل بسنته، وبعد،  فقد مضت خمس سنين منذ تغمد الله برحمته والدنا الكبير؛ فمضى حميد السيرة، محمود الأثر بعد أن جاهد في الله حق جهاده، ولم يأل سعياً في إصلاح العباد وتأمين البلاد.

          ولقد احتملنا العبء من بعده، وحملنا الأمانة على أثره، وباشرنا في إتمام ما ابتدأه جلالة والدنا العظيم تغمده الله برحمته من المشاريع العمرانية متوكلين على الله، مستعينين به، غير آلين جهداً في أداء حقوق الله تعالى، وحقوق عباده والقيام على الرعية بالعدل والرأفة والبر والشفقة.

          وقد مضت هذه السنوات والعالم في قلق واضطراب، وجدال وخصام بما فرق الناس الهوى، وباعدت بينهم المطامع، فحرصت كل الحرص على أن تتمسك أمتنا في هذه الأحداث بإيمانها، وتعتصم بشريعتها، وتحافظ على أخلاقها وآدابها وحضارتها؛ لتحقق قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.

          ففي الخمس سنين التي احتملت فيها أعباء المسؤولية العظيمة ـ قبل الله والأمة ـ خطت هذه البلاد السعودية خطوات واسعة في العمران، لا مثيل لها في أكثر بلدان الشرق الأوسط، وهيأ الله سبحانه لنا نعمتي الأمن والرخاء، مما لم يكن لهذه البلاد المترامية الأطراف في مئات السنين.

          لقد عملنا جهدنا، وبذلنا وسعنا؛ لتكون بلادنا دار أمن وعمران وتقدم، فاحتفظنا في سياسة الدولة الخارجية بأصول من شأنها إدامة أحسن العلاقات مع الدول العربية والإسلامية، متخذين من التمسك بميثاق الجامعة العربية والأمم المتحدة نبراساً لهذه العلاقات، فقد سرنا في صلاتنا بالبلاد الإسلامية على ما يوجبه الإسلام، وتقتضي به الأخوة بين المؤمنين، فأحكمنا عرا المودة والمحبة بيننا وبينها، وزرنا بعضها رغبة في الاطلاع على أحوالها، والتعرف إلى أولي الأمر فيها، والعمل لإحكام التآلف والتعاون معها، ودعونا رؤساءها لزيارة بلادنا.

          وأما دول العالم الآخر فقد تبعنا معها سياسة وسط مخلصة لميثاق الأمم المتحدة، فلم نتحيز، ولم نخرج عن جادة المعاملة الحسنة، ولم نخاصم إلاَّ من اعتدى علينا؛ وإن كنا اليوم في نزاع مع بعض الدول الكبيرة، فقد عملنا جهدنا لفض هذا النزاع بالطرق الودية؛ فقبلنا التحكيم في مسألة حدودنا الشرقية في البريمي وغيرها؛ ولا زلنا نقبله حلا كريماً، ولكن الطرف الآخر نزع إلى القوة، واعتدى على أرضنا، ثم اعتدى بعد ذلك على حليفتنا وشقيقتنا مصر؛ فقطعنا علاقاتنا الدبلوماسية معه، ولا تزال مقطوعة، ومتى عاد إلى الحق واحترم الاتفاقيات القائمة فإننا نرحب باستئناف علاقاتنا العادية معه.

          وأما فرنسا التي ليس لها معنا الآن علاقات دبلوماسية أيضاً، فإن إسرافها في البطش بالمسلمين في الجزائر، وعدوانها على مصر اضطرنا لقطع هذه العلاقات، وما كان لنا أن نغض الطرف عن عدوانها على إخواننا الجزائريين وفيما عدا هاتين الدولتين فإن علاقاتنا ودية مع جميع دول العالم.

          وأما إسرائيل فنحن لم نعتبرها في أي وقت دولة، ولا عرفنا لوجودها أي كيان شرعي، بل نعتبر قيامها على أرض العرب وتشريدها أبناء فلسطين عدواناً على البشرية كلها، ونحن نحمد الله أن سياستنا السلمية، وعلاقاتنا الطيبة مع دول العالم قد ساعدت على استمرار الأمن والسلام في منطقتنا، وحظيت ولله الحمد البلاد العربية السعودية بأمن شامل في الداخل والخارج، وذلك بفضل اتباعنا كتاب الله وسنة نبيه.

          لقد قامت سياستنا في السنين الخمس الأخيرة على الرغبة الصادقة في السلم، ومحبة الإنصاف للجميع، وإن طبيعة بلادنا، ومكانتها في عالم الإسلام، وكونها مجمعاً لحجاج المسلمين، وفيها قبلتهم والحرمان المقدسان، يجعل من واجبها الحياد التام في كل نزاع، والمحافظة على أحسن الصلات مع جميع الدول الأخرى، مرعية في تنمية صلات الإخاء البشري، وتيسيراً للمسلمين في جميع الأرض أن يؤدوا مناسكهم، وقد من الله علينا بالنجاح في هذه السياسة التي هي إحدى خططنا الأصيلة.

          وإنني وحكومتي نرقب في يقظة سير الحوادث العالمية؛ لأجنب هذه البلاد المقدسة المزالق، وقد كرمني الله بولاية شؤونها ليديم الله عليها نعمة الإسلام، والأمانة العظيمة التي ائتمننا الخالق سبحانه عليها، وهي خدمة الحرمين الشريفين، نبذل الجهد كل الجهد في أدائها على وجهها.

          وقد أنشأنا من الأبنية والطرق ما ييسر الحج، ويرفه الحجاج في المناسك كلها في مكة وعرفات، وبنينا المستشفيات في مجامع الحج لعلاج من يمرض من حجاج المسلمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم.

          وبعد الفراغ من عمارة الحرم النبوي التي تمت على أجمل الأشكال وأجل الهيآت، شرعنا في توسعة الحرم المكي وتشييده وتجميله، وإحاطته بالشوارع والمسالك التي تيسر وفود المسلمين إليه، وقد جاء ما أنشئ من العمارة الجديدة دليلاً على عظم العمارة المقصودة على روعتها وإجلالها، وفائدتها لحاج بيت الله الحرام، وموافقتها لما تمناه المسلمون زمنا طويلاً في تشييد الأماكن المقدسة، وبذل الجهد والمال؛ فيجعلها لائقة بالحضارة الإسلامية، شاهدة بعناية خدام الحرمين بهما دون ضن بمال أو جهد، وقد كان كثير من المسلمين يشكون ما يلقون من عناء السعي، وإنهم يسعون في سوق يكثر فيها الزحام والضوضاء، وتقطع السابلة الطريق على الساعين، فاليوم يعجب كل مسلم ويفخر بما يرى في السعي من سعة وراحة وجمال.

          ولا يزال العمل مستمراً في جد ودأب لتوسعة الحرم، والله ييسر لنا أداء الواجب، ويعيننا عليه، ويجعل عملنا فيه خالصاً لوجهه الكريم.

          وقد تصدع سقف الكعبة، وبعض جدارها فلم نأل جهداً، ولم ندخر وسعاً حتى تم ترميمها وتدعيمها، واحتفل بهذا التجديد احتفالاً شهده ممثلو الأمم الإسلامية فرحين مستبشرين معجبين بالمبادرة إلى تدعيم الكعبة، والفراغ من ترميمها في أيام قليلة.

          لقد كان فضل الله علينا وعلى بلادنا في السنين الأخيرة كبير، فنمت موارد الدولة نمواً عظيماً، ونما معها العمران والتقدم بما ترون من مدن جديدة منتشرة من شرق هذه الجزيرة العربية إلى غربها. هذه المدن وما تبع نحوها من طرق وخدمات متعددة، وتحسين وتجميل يحق لبلادنا أن تفخر بها، وبالسرعة في إنشائها، ولقد انفق في سبيلها أموال طائلة، ولكنها كانت ضرورة لتطوير البلاد العربية السعودية من البداوة إلى الحضارة، وضماناً ضد العطالة، وتكثيراً للعمل، وهي لا شك مقدمة لظهور موارد جديدة، وأعمال متنوعة في الصناعة والتجارة مما يهيء للبلاد أرزاقاً أخرى.

          وقد كان لهذا العمران السريع المتزايد أثره في توزيع الثروة بين الناس، والقضاء على البطالة والفقر في البلاد؛ حتى توارد عليها طلاب الرزق من بلاد العرب والمسلمين، وقد عاشت قبل قرون في حاجة إلى صدقات المسلمين، وهي اليوم ولله الحمد في مقدمة الأوطان أمنا ورخاء، وقد شعرنا بسرعة هذا التطور العمراني سواء في المدن الجديدة والقديمة، أو مراكز الإنتاج للثروة الرئيسية من النفط، فوضعنا خططاً وأوامر ضمنت للعمال في بلادنا أحسن شرائط الخدمة والعمل في البلاد الراقية.

          ففتحنا أمام العامة سبل العيش، وسبل الأمن الاجتماعي، وقدمت الدولة لهم من الخدمات المجانية في الصحة والتعليم، والزراعة والضمان ضد الكوارث والحوادث، ما تفتخر به البلاد العربية السعودية. وهي خدمات مجانية في التعليم والصحة والزراعة، قليلة النظير في الشرق كله.

          وإن نمو هذه الخدمات وتوسعها في فترة قصيرة هو مدعاة للفخر وموجب لشكر الله تعالى.

          وقد اطرد التقدم في مرافق المعايش كلها، وفي نظام الحكومة وأعمالها، وهذه أمثلة مما نالته بلادنا في سنين قليلة.

1.

عنيت كل العناية بتعليم الدين، وفي الدين صلاحنا وفلاحنا، فأكثرنا من المعاهد الدينية، ويسرنا لأساتذتها وطلابها المعيشة، ليفرغوا لطلب العلم، فازداد عدد الطلاب والمتخرجين، فسدوا حاجة البلاد في القضاء والإفتاء، والوعظ والإرشاد وأمور أخرى، وأنشأنا المدارس الابتدائية والثانوية في سنين قليلة، فوجدت ناشئة البلاد موارد العلم ميسرة قريبة إليهم. في المدن والقرى، في الأرجاء الدانية والقاصية. وقد تقدم التعليم الابتدائي والثانوي في سنوات قليلة تقدماً نال الثناء  والإعجاب من المتتبعين لتاريخ التعليم في بلادنا وغيرها، فحمدنا الله سبحانه على ما يسر لبلادنا من إحياء سنن المسلمين في طلب العلم، وبذل المال والجهد في تحصيله وبلوغ الغاية فيه.

 

ولما شرعت مدارسنا الثانوية تخرج طلبتها، وكثر المتخرجون بادرنا إلى إنشاء الجامعة، وقد أنشئت فيها كليات، وستنشأ أخرى حتى تستوعب كل أنواع المعارف، وتساير جامعات العالم في إخراج العلماء النافعين، والباحثين المدققين في كل علم وفن، ائتماراً بأوامر الإسلام التي تأمر بالنظر في ملكوت السموات والأرض، والنظر في أحوال الأمم ماضيها وحاضرها، وطلب العلم في أقصى الأرض، وقد وضعت خطط الجامعة على أن تكون جامعة إسلامية عربية تأخذ بأقصى ما بلغه العلم، وتستمسك بالدين والأخلاق، وتنشئ للأمة ناشئة عالمة مسلمة عربية إن شاء الله، وقد خطط للجامعة أبنية كبيرة وكثيرة اشترك في تخطيطها مهندسون من أرجاء العالم واختير أحسن تخطيط لتبنى عليه الجامعة قريباً بتوفيق الله تعالى. وكذلك أنشئت مكتبة كبيرة في الرياض ستملأ بأمهات الكتب النافعة في كل علم، وتبلغ ما بلغته خزائن الكتب في التاريخ الإسلامي وفي العصر الحديث، وقد تعاونت بلدية الرياض التي أنشأتها مع جامعتنا على إمداد هذه المكتبة بأنواع الكتب في شتى العلوم؛ لتكون مثابة للراغبين في القراءة، الطامحين إلى الاستزادة من العلم.

2.

ولم نغفل الزراعة فشرعنا في بناء سدود على الأودية؛ لحفظ المياه وتيسير الانتفاع بها، وإرشاد الزراع إلى خير الوسائل في الزرع والري، وأعينوا على إحياء الأرض بوسائل مختلفة، منها آلات الري التي وزعت عليهم مجاناً، وخفض لهم ثمنها، ويسر لهم أداؤه في مدد طويلة، وشرع في إنشاء مدارس زراعية يرجى أن تكون فاتحة خير، ومقدمة لمدارس كثيرة متفرقة في أرجاء المملكة، تعلم الناس فنون الزراعة الحديثة، وتمكن من الانتفاع بكل أرض صالحة للزرع في بلادنا إن شاء الله. وكذلك عنيت حكومتي بالصناعة، فشرعت تنشئ مدارس صناعية، ووضعت الخطط لصناعات نافعة، ومصانع كثيرة في نواحي البلاد، تعين الناس على كسب معايشهم، وتغني البلاد عن كثير مما تجلبه من البلاد الأجنبية من جليل المصنوعات ودقيقها، ولا تزال بلادنا في أول الطريق، ولكننا عازمون بتوفيق الله أن ننشر الصناعات النافعة، ونيسر لناشئة البلاد تعليمها والاستفادة منها، والإفادة بها.

وقد اتخذت خطوات لازمة لكشف المعادن برسم وتصوير مساحات شاسعة، ستشمل البلاد كلها، وتهيئ لاكتشاف المجهول فيها.

3.

وعنيت حكومتي بالصحة كل العناية؛ فأنشئت المستشفات الكبيرة والصغيرة والمستوصفات في أنحاء المملكة، واتخذت الوسائل الناجحة لمكافحة الأمراض في كل مكان، وأنشئت مستشفيات كبيرة وافية لمعالجة الحجاج في موسم الحج، كان لها أثر واضح في إسعاف الحجاج ومداواتهم.

4.

والجيش تقدم تقدماً سريعاً في نظامه وعدده، ويستمر تنظيمه وتسليحه على أنفع الوجوه.

5.

وقد أنشئ في مملكتنا طرق عدة، تمتد مسافات بعيدة، أعظمها الطريق بين المدينة المنورة وجدة، ووضعت الخطط لإنشاء طرق أخرى تصل أطراف المملكة، ما بين الخليج العربي والبحر الأحمر، وما بين شمالي البلاد وجنوبها، وشرع في إنشاء طريق بين الطائف ومكة، يمر على جبل الهدى وعرفات. ولا يخفى ما في إنشاء هذه الطرق من تيسير السفر في أرجاء المملكة، وتسهيل نقل السلع، وتبادل المنافع التجارية، وتقريب الأقوات لطالبيها في زمن قصير بنفقة قليلة، والله نستعين على المضي قدماً في تعمير البلاد وترقية أهلها.

          وأمور أخرى فيها عمران البلاد وصلاح العباد، لا تحتاج إلى تعداد وتبيان، ولقد ترتب على نمو العمران في البلاد، وتنوع الخدمات التي تقوم بها الدولة، واتساعها في الخمس السنين الأخيرة أن رأينا ضرورة التطور في نظم الدولة؛ لتنمية وتحسين أدوات الحكم، وأصدرنا الأوامر اللازمة لذلك، والتي تهدف نحو التقدم المناسب لحاجات البلاد، فوسعنا سلطات مجلس الوزراء، وحددنا المسؤوليات، وأصدرنا التعليمات والأوامر لحسن القيام على موارد الثروة وتوزيعها، وسنراعي ذلك في كل حين، فنساير حاجات الدولة النامية، ومصالح الرعية بما يلزم من تعديل وتحسين في إدارة الأعمال وسياسة الحكومة لخير رعيتنا وبلادنا.

          نذكر هذا تحدثاً بنعمة الله، وتذكيراً لنفسي وأمتي بشكر هذه النعمة، وما شكرها إلاَّ الإنابة إلى الله سبحانه، والعمل بشرعه، وتعظيم شعائره، والعدل بين الناس، والقيام بالحق، والسعي في أن يصلح الإنسان نفسه وأمته، ويدأب لعمران بلاده، ويجد في كل إصلاح قاصداً به وجه الله وما يحتمه الواجب، أسأل الله التوفيق لي ولكم، وأدعو أن يهدينا للتي هي أقوم، ويجمع قلوبنا على التقوى، ويجعلنا كما قال في كتابه المبين وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.