إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء

     



ضوابط تحمي التجربة من صراعات الفوضى:
          ثم تبلورت هذه الساحات إلى فكرة المنابر أو التنظيمات، ثم تقدمنا إلى إنشاء الأحزاب التي تعبر عن الاتجاهات السياسية الثلاثة في كل مجتمع ووضع مجلسكم قانون الأحزاب بضوابط تحمي التجربة الوليدة من صراعات الفوضى وانشقاقات الانقسام وتصدع العائلة الواحدة، وبعض هذه الضوابط موقوت بهذه الفترة التشريعية، ولكن فلسفة كل ذلك هي الخطوة المتأنية الواثقة. وإذا كنا لسنا من هواة الشعارات، فلسنا أيضاً من هواة استعراض القفزات الانفعالية أو الطائشة، كذلك الحكم المحلي يقدم بخطى ثابتة مما يوضح سلطان الديمقراطية لتشمل كل رقعة من بلدنا، ولم تعد هناك من سلطة تنفيذية على أي مستوى من مستويات المسئولية بغير رقابة شعبية، ومن أجل هذا من أجل طموحنا المتيقظ إلى مزيد من الديمقراطية، فإن الممارسة السليمة هي صمام الأمن الحقيقي لحماية هذا الطموح من وقفة اهتزاز أو نكسة رده أو معاناة غموض أو مغالاة بلبلة وتشكيك، وعندما نحمي طموحنا من العثرات فإننا ندفع بهذا الطموح إلى خطوات مضاعفة.

          هذه أيها الأخوة والأخوات أعضاء مجلس الشعب هي مسئوليتكم أمام التاريخ، وقد اختارتكم الديمقراطية لكي تكونوا كتيبتها الأولى في نضال التطور والتقدم، أنتم يا من أعطتكم الجماهير ثقتها وأنابتكم في إقرار إرادتها، أنتم تحملون العبء الأكبر في سنوات الميلاد العظيمة.. هذه الجماهير تطالبنا جميعاً بالممارسة المسئولة الكاملة، لقد كفل الدستور لهذه الممارسة كل الضمانات وقدم لها كل الفرص لأداء الواجب التشريعي وواجب الرقابة، بل أن الدستور قد خول ممثلي الشعب في اختيار أكبر مواقع المسئولية عندما نص على أن مجلس الشعب هو الذي يرشح رئيس الجمهورية.. لكم حق اقتراح القوانين وأنتم الذين تقرون السياسة العامة للدولة وأنتم الذين تقرون الخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتقرون الموازنة العامة وموافقة مجلس الشعب فرض واجب نقل أي مبلغ من باب إلى أخر من أبواب الموازنة العامة.. الوزارة مسئولة أمامكم ومن حق المجلس أن يقرر مسئولية رئيس مجلس الوزراء، ومن حقه أيضاً أن يسحب الثقة من نواب رئيس الوزراء أو الوزراء أو نوابه. وأساليب الرقابة التي نص عليها الدستور متشعبة متسعة لكل صغيرة وكبيرة يريد الشعب أن يمارس سلطانه عليها. حق السؤال، طلبات الإحاطة، الاستجواب، طرح موضوع عام للمناقشة، إبداء الرغبات، لجان تقصي الحقائق التي خول لها الدستور فحص أي نشاط في مؤسسة عامة أو جهاز تنفيذي. وأن تجمع ما تراه من أدلة وأن تطلب سماع من ترى سماع أقواله وأن تحصل على ما تطلبه من وثائق أو مستندات.

تدعيم سلامة التجربة بتدعيم سلطة الرقابة
          
هذه الأفاق الرحبة لسلطان مجلس الشعب مع ضمانات الحصانة البرلمانية ومع حرمان أية سلطة أخرى من حق حل المجلس، حتى رئيس الدولة نفسه، إلا إذا قرر الحل استفتاء شعبي، هذه الآفاق الرحبة تفتح كل الأبواب أمام الممارسة الدستورية التي تصل إلى كل مسئول والى كل قرار. وقد لاحظت وأنا أتابع تقريراً عن أعمال الدورة السابقة، أن عدد الأسئلة قد تضاعف كما أن طلبات الإحاطة والاستجوابات قد تسابقت وتلاحقت، كل ذلك كفيل بأن يطمئن إلى سلامة التجربة الديمقراطية، ولكن أرجو أن تسمحوا لي بالقول أننا نريد تدعيم سلامة التجربة بتدعيم سلامة سلطة الرقابة، وإذا أردت أن أعبر عن نبض الجماهير في هذا الشأن من واقع مسئوليتي الدستورية فإنني أسمح لنفسي أن أقول أن جماهير شعبنا تطالبنا بالرقابة الشعبية وهي قد أعطت أصواتها لمن تثق بجدارته في هذه الممارسة ولكن جماهير شعبنا أيضاً حريصة في الوقت نفسه كل الحرص على أن تكون هذه الرقابة مجدية وفعالة ومحققة للأهداف التي شرعت من أجلها وهي حماية العمل العام والمال العام والمنصب العام من أن يتسلل قصور أو عبث بمال الشعب أو فساد في مباشرة العمل التنفيذي، هذه الأهداف لن تتحقق إلا بالتزام الجدية الكاملة والدقة الواجبة والإعداد المدروس والبحث المتأني. إن الحصانة البرلمانية لعضو المجلس هي الكفة المقابلة لكي لا يؤخذ عضو بانزلاق كلمات عابرة أو بجنوح في التعبير أو خروج عن مقتضى الموقف أنها تدعم العضو بالثقة والاطمئنان وهو يؤدي مسئولية الرقابة ولكن ما يدعم ثقة الجماهير بأن مجلس الشعب يؤدي إلى دورته الكاملة وما يبلغ الاطمئنان للجماهير إلى أن ممثليه ينوبون عنه فعلاً في سلطانها الرقابي وأن تمارس كل واجبات الرقابة الدستورية في موقعها الصحيح بالقدر المتوفر من صحة وقائع المساءلة التي قد تصل إلى الاتهام أو الاقتراع بعدم الثقة.

          هنا تبرز الرقابة المسئولة وهنا تتحقق الممارسة السليمة وهنا تتدعم ثقة الجماهير في التجربة الديمقراطية، وهنا تنمو التقاليد الراسخة.

لا مسئول فوق المساءلة ولا مواطن فوق القانون

          إن التجربة الديمقراطية لن تمضي في فريقها النامي إلا إذا تحققت الرقابة الشعبية الفعالة.. ولسنا نريد أبداً لنصوص الدستور أن تكون حبراً على ورق، أو مجرد شعارات، وتجربتنا كما قلت جادة وواضحة ويقظة وطموحة.. ولذلك فإنني أناشد كل الآراء والاتجاهات.. أناشد الغالبية قبل المعارضة. أناشدكم جميعاً أن نحرص حرصاً كاملاً على أبعاد التجربة الديمقراطية من كل ما يسقط جديتها أو يشوه وضوحها، أو يعوق طموحها، أو يهز يقظتها. وكما قلت وأكرر ما أقول أنه لا يوجد مسئول فوق المساءلة ولا يوجد مواطن فوق القانون، ولكننا يجب أن نؤمن المسئولية وسيادة القانون من الانفعال المتسرع، أو المعارضة لمجرد المعارضة، أو التأييد لمجرد التأييد، أو التشهير المسخر للمناورات الحزبية. كان هذا أسلوب ابتليت به الديمقراطية الزائفة قبل ثورة 23 يوليه، انغمست حتى آذانها في مناورات الممارسة المتخربة حتى تحول الحكم إلى لعبة التسابق على مقعد الحكم، مهما كانت الوسيلة، ومهما كان الثمن، ولقد دفع الشعب ثمن ذلك كله غالباً من مصالحه ومن تطوره.

أيها الأخوة والأخوات
          إن ديمقراطية الشهوات الحزبية منذ عام 1924 حتى 1952 سمحت بتأجيل انعقاد أول برلمان بعد 5 أشهر من انتخابه، ثم صدر المرسوم بحل مجلس النواب، ديمقراطية الشهوات الحزبية سمحت بحل مجلس النواب في 23 مارس 1925 في يوم اجتماعه الأول. ديمقراطية الشهوات الحزبية سمحت بإلغاء دستور سنة 1923 في 22 أكتوبر سنة 1930، ثم صدر الأمر الملكي بإلغاء دستور سنة 1930 بعد ذلك بأربع سنوات كان الدستور، دستور سنة 1923، كما نص في ديباجته منحة من الملك استردها الملك في سنة 30 وألغى دستور 1923، وقام دستور سنة 30، ثم عاد الملك وأعاد دستور سنة 23، ليس هذا هو أسلوب ممارستنا الديمقراطية، لم يمنحنا ملك دستورنا الدائم، وإنما أردناه بملء حريتنا، ووضعنا فيه كل الضوابط والقواعد التي تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بملء إرادتنا وليس منحة من أحد، ولا يستطيع أن يسحبه أحد، هكذا كانت حياتنا البرلمانية وعلى مدى 29 عاماً تنتقل من تأجيل إلى إلغاء، في ملهاة حزبية، فسدت الحياة السياسية، ولسنا ننكر أن هذه القبة عرفت مناضلين شرفاء من أجل الديمقراطية ولسنا ننكر أنه رغم تلك الملهاة الحزبية، فقد برز رجال حافظوا على الدستور فأعطوا كل جهدهم للعمل الديمقراطي المسئول، ولكن النظام العام الذي حكم البناء الديمقراطي، كان لا يسمح إلا بمثل هذه الانتفاضات الفردية التي ضاعت صيحاتها في واد سحيق، غلبت عليه الملهاة، وانتهى بالشعب كله إلى المأساة.. إن يقظتنا وطموحنا إلى المزيد من الديمقراطية، فطالبنا أن تكون في مثل جدية التجربة وفي مثل وضوحها، والحكم الوطني أيها الأخوة والأخوات وسط هذه التحديات الخارجية والاقتصادية والاجتماعية، أقول الحكم الوطني عبء ثقيل، وهو تكليف بما فوق الطاقة، وهو في هذا الوضع لا يحتاج إلى تأييد يفرضه تحزب للأغلبية، ولا يحتاج أيضاً إلى تقويض تفرضه المعارضة من أجل المعارضة.
وسيلتنا الديمقراطية الحزبية وغايتنا مصر الديمقراطية:

          إن الحكم الوطني وهو الجناح التنفيذي للبناء الديمقراطي يحتاج إلى تأييد يسهم بالرأي والفكر والدراسة... كما يحتاج إلى معارضة تسهم بالتقويم السليم والكشف الصادق عن أي قصور أو اعوجاج.. هذا هو الطريق الصعب في الممارسة الديمقراطية بوجهها الجديد أن ممارستنا نحن.. هذا هو الطريق الصعب البعيد عن الشهوات والمناورات.. وهذا هو وجه العائلة المصرية التي تحتضن الرأي والرأي الأخر لجميع أبنائها.. إنني أناشدكم جميعاً أن تكونوا سنداً قوياً لبناء الديمقراطية الاشتراكية.. أناشد كل الآراء وكل الاتجاهات الوطنية أن تمد يدها بالمشاركة الفعالة لدعم البناء وإرساء تقاليدنا.

وأقول لكم بالإقناع واليقين.. أنه إذا كانت وسيلتنا هي الديمقراطية الحزبية، فإن غايتنا جميعاً يجب أن تكون هي مصر الديمقراطية الاشتراكية.. وأرجو بكل الأمل أن يسبق الصالح الوطني.. صالح مصر وشعب مصر.. يسبق كل فكر يتجه إلى وسط أو يسار أو يمين... وإذا تعددت بدايات الطريق فإن خطونا جميعاً في نهاية الأمر بالرأي والرأي الأخر هو إلى طريق واحد هو طريق مصر.. وإلى هدف واحد هو عزة شعب مصر ورخاؤه.. وحقه الطبيعي في الحياة الكريمة.. هذا ندائي لكم اليوم، وهو تأكيد لرسالتي إليكم في 14 مايو من هذا العام عندما قلت أننا نمارس الديمقراطية مع الالتزام بمبدأ أساسي هو أن تكون المصلحة القومية العليا لمصر دون تعصب فوق الأحزاب جميعاً.

أيها الأخوة والأخوات أعضاء مجلس الشعب
          بقيت لي كلمة أريد أن أوجهها إلى من يريدون النيل من تجربة الديمقراطية بعبارات التشويه أو شعارات التجريح، وكلها نابعة من حقد مرير أو فهم أبله غرير... يقولون أن الأحزاب بوضعها الحاضر نشأت من أعلى باسم السلطة، وكان الأجدر لنأخذ صفة الأحزاب أن تنشئها قواعد الجماهير.. هؤلاء الذين يقولون بذلك يتجاهلون عن شهوة أو غرض أن أحزابنا نشأت لأول مرة في حياتنا البرلمانية بانتخاب حر نزيه مباشر اشتركت فيه كل قواعد الجماهير بالملايين. لقد أعطى الناخبون أصواتهم لمرشحي التنظيمات الثلاثة بمبادئها وبرامجها المعلنة.. ولم يكن إطلاق صفة الحزب على كل تنظيم إلا إقراراً بحقيقة وتسجيلاً لواقع فرض نفسه منذ بدأت إجراءات الانتخابات.. ويقولون أيضاً أن الأحزاب بوضعها الحاضر هي نسخة مكررة من الاتحاد الاشتراكي.. يقولون بهذا بعد أن لفظنا تماماً بناء التنظيم الواحد والرأي الواحد.. وبعد أن انطلقت الآراء والأفكار إلى قنواتها الطبيعية المتعددة بمحض الإرادة والاختيار.. وبعد أن صدر قانون الأحزاب.. وبعد أن هيأنا كل الأجواء لصدور صحافة الأحزاب..

ثورة 15 مايو أسقطت هياكل حكم الفرد
          يقولون بهذا الزعم والتشويش بعد أن أسقطت ثورة 15 مايو كل هياكل حكم الفرد الواحد في كل المواقع السياسية والتنفيذية. ولكنهم يقولون لأنهم لا يعلمون ولا يريدون لغيرهم أن يعلم، لقد تخلفوا بالفكر والجمود عن حركة التقدم، وتقوقعوا بالحقد والمرارة في عزلة كاملة عن نبض الجماهير.. -الجماهير التي تبني الديمقراطية بطموح المزيد من الديمقراطية.

أيها الأخوة والأخوات أعضاء مجلس الشعب:
          لقد مضت دورة.. دورتكم الأولى بجهد ملحوظ في مجالات التشريع والتنمية والرقابة الشعبية، وإنني أراها باقتناع كامل خطوة مزدهرة ونحن نؤسس البناء، ونحن ننمي البناء بالتخطيط العلمي المتطلع إلى مجتمع سنة 2000، وقد هيأت لنا سياسة الانفتاح أن نستعين بكل الخبرات، وأن نستلهم الخط الصحيح من كل التجارب التي سبقتنا في مضمار التقدم التكنولوجي المذهل الذي يحكم عالم اليوم بسلطان العلم والحساب الدقيق.. ونحمد الله سبحانه وتعالى على أن جماهيرنا قد تفهمت هذه الحقائق العصرية وأحبطت بوعيها بمصالحها كل ما أثارته الأصوات المتحجرة أو الجامدة أو تلك التي تريد لنا أن نختلق في أثار الأستار الحديدية لكي نعود إلى مذلة التبعية وهوان الإرادة المسلوبة واشتراكية توزيع الفقر. ولكن الجماهير تطالبكم بالشيء الكثير.. إن آلام الجماهير ألح عليها من آمال الانتظار الطويل، وتطلع الجماهير إلى الحلول السريعة لمتاعبها اليومية يشجب في يقينها أي تكاسل أو تهاون في مواجهة المشكلات التي تستوعبها الحلول الذاتية وإرادة العمل ويقظة الضمير. إن ثقة الجماهير فيمن يمثلها تحت هذه القبة تعطيها الحق كل الحق أن ترى هذا المجلس بلجانه خلية ثورية متكاملة من العمل المتصل للإنجاز السريع والمواجهات المتوثبة لكل أنين يصل إلى بيت الشعب مستخدماً قناته الشرعية، فهذا أساس ثابت في ديمقراطيته.. إن من حق كل مواطن أن يصل صوته إلى بيت الشعب ليعبر بملء الثقة.. هذا بيتي هنا وهذا حقي هنا.

          من أجل هذا فإنني أتطلع مع الشعب إلى دورة إنجاز كبير لكل التشريعات التي لم يسعف الوقت لإنجازها في الدورة السابقة، وللتشريعات الجديدة التي يفرضها التخطيط الكامل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في ظل سياسة الانفتاح.

          والإنجاز الكبير يتطلب مشاركة جماعية متكاملة ملتزمة بمبادئ التطور.. لا يتخلف فيها عضو عن أداء واجبه الوطني الدستوري.. وحتى لا يلمس من يتتبعون التجربة الديمقراطية أن أي نكوص عن مبادئ التطور الاشتراكي الذي يطالبنا في كل ما نشرعه بعدالة توزيع الأعباء.. فلا ارتداد إلى مجتمع القلة والقمة، ولا نكوص عن تكريم عرق كل من يبذل عرقاً على أرضنا.. عرق الكادحين وعرق القادرين.. عرق العائلة المصرية بكل أبنائها.. وتكريم عرق الكادح هو التخفيف عن أعبائه.. وتكريم عرق القادر هو بتحمله القدر الواجب من أعباء الوطن ما دمنا قد حررنا الإنتاج الوطني من القيود المعوقة، وما دمنا قد أمنا كل نشاط من أي انتقاض مباعث بمصادرة أو تأميم حتى يثمر مجتمع كل المنتجين.

أيها الأخوة والأخوات:
          يبقى أن أضع أمامكم ومن خلالكم إلى الشعب الموقف الخارجي كما هو اليوم. تعلمون أنني منذ أن تحملت الأمانة التي عهد بها الشعب إليِّ بكل إيمان بالله سبحانه وتعالى وبكل ثقة بالنفس وأمل في المستقبل، أقول آليت على نفسي أن أكرس كل فكري وعملي للقضية الوطنية والقومية، فليس أعز على النفس من تحرير تراب الوطن واسترداد حقوق شعب شقيق وضعته الأقدار معنا ووضعتنا معه في وحدة مصيرية لا انفصام لها.. وقد كان ولا يزال قدر مصر دائماً أن تتحمل العبء الأكبر في أي مواجهة بين الأمة العربية وأعدائها والطامعين فيها، وتلك ضريبة يتقبلها الشعب المصري بكل رضا وقناعة، لا استسلاماً للمقادير، وإنما خياراً إرادياً لطريق الكفاح عن إدراك تام بتبعاته الجسام ومخاطره التي لا حد لها والتضحيات التي يتطلبها بالروح والدم والقوت.

          وبحكم الوعي التاريخي الذي ترسب في أعماق شعب مصر على مر الزمن والرصيد الحضاري الهائل الذي يستند إليه في كل خطوة يخطوها، فقد احتفظ شعبنا على الدوام وتحت أقسى الظروف بالقدرة الفائقة على وضوح الرؤية وتحديد الهدف، والتفرقة بين ما هو أساسي مبدئي في مسيرة النضال الوطني، وما هو هامشي عارض لا يمس جوهر القضية، وسرعان ما تتجاوزه الأحداث فيسقط في زوايا النسيان.
جنيف ليس هدفاً ولكن وسيلة للسلام:

          من هنا كان إصرار شعبنا على العمل بكل ما أوتي من قوة من أجل تحقيق الهدف القومي الذي يسمو فوق كل هدف ويعلو على كل غاية ويرتفع إلى مصاف الفرائض الدينية لأن الله سبحانه وتعالى يأمرنا بالجهاد ما استطعنا إليه سبيلاً من أجل الحفاظ على مقدسات الأمة والذود عن كرامتها وشرفها وردع العدوان الواقع على أبنائها. والمجاهد المؤمن حقاً هو من يحتفظ بالقدرة على مواصلة الجهاد إن حرباً أو سلماً، ويضع هدفه واضحاً نصب عينيه ثم يمضي نحوه بأقدام راسخة وهو عالم تماماً بالظروف المحيطة به، قادر على التمييز الواعي بين الخط الاستراتيجي الثابت والحركة التكتيكية المرنة. ثم أن الثوري الأصيل لا يمكن أن ينطلق في نضاله من تجاهل الواقع أو التعامي عنه، وإنما يبدأ من رؤية صادقة للواقع وتصميم أكيد على تغييره بما يتفق مع معتقداته ومبادئه ومصالحه العليا. لذلك فقد كانت أمتنا صادقة كل الصدق حين خاضت المعركة المجيدة منذ 4 أعوام خلت، ثم أنها كانت ولا تزال أمينة في دعوتها للسلام مخلصة في رغبتها في إحلاله في ربوع المنطقة، لأن هدفنا في النهاية هو أن يعيش كل في وطنه وداخل حدوده آمناً على نفسه وماله ومقدساته قادراً على الإسهام بسخاء في تقدم البشرية وتوجيه كافة طاقاته إلى تحدي التنمية والتقدم، وتذكر أنني لم أتردد في مواجهة إسرائيل بتحدي السلام وحرمانها من سلاح كثيراً ما شهرته في وجهنا في المحافل الدولية وحققت به على حسابنا كثيراً من المكاسب بغير حق، إذ ارتدت قناعاً زائفاً واختلست لنفسها على الصعيد الدولي صورة الداعي للسلام المنادي بنبذ الحرب والعنف والدمار، وكانت دعوتي للسلام سابقة للحرب ثم مصاحبة وتالية لها، فقد طرحت من فوق هذا المنبر مبادرة في الرابع من فبراير 1971، دعوت فيها إسرائيل بالقيام بانسحاب جزئي على الشاطئ الشرقي للقناة كمرحلة أولى على طريق جدول زمني يتم وضعه بعد ذلك لتنفيذ باقي بنود القرار 242، وبالمقابل قلت أننا على استعداد عندئذ للبدء في تطهير مجرى قناة السويس وإعادة فتحها للملاحة الدولية خدمة للاقتصاد العالمي. وعندما كنا في أوج انتصارنا العسكري الخالد توجهت إلى العالم مرة أخرى من فوق هذا المنبر بمبادرة في السادس عشر من أكتوبر 1973 دعوت فيها إلى عقد مؤتمر دولي للسلام في ظل الأمم المتحدة يشترك فيه ممثلو شعب فلسطين البطل باعتباره طرفاً أساسياً في القضية، وكانت تلك المبادرة في الواقع هي ا لشرارة الأولى التي تولد عنها مؤتمر جنيف، عندئذ وضعت إسرائيل ولأول م رة منذ قيامها أمام خيار لا تستطيع الإفلات منه أو التلاعب فيه، ولا تستطيع المضي في خداع الرأي العام بدعوة أنها راغبة في السلم، ولكن العرب هم الرافضون، اسمحوا لي أن أتوقف هنا لحظة لكي أتحدث إليكم والى شعبنا وأمتنا عن آخر التطورات المتعلقة بالمؤتمر باعتبار أنه مطروح في الساحتين العربية والدولية ليس كهدف في حد ذاته، وإنما كوسيلة يمكن أن تؤدي إلى تحقيق الهدف، إذا نحن استطعنا أن نستثمر عناصر القوة لدينا حتى نضع إسرائيل أمام خيار قاطع بين سلام قائم على العدل والشرعية أو مواجهة لا يعلم أحد مداها أو الآثار التي يمكن أن تترتب عليها، فهي مواجهة سوف تسخر لها الأمة العربية كل طاقاتها المادية والمعنوية، وتعرفون جيداً سجل الجهود التي في الأشهر الأخيرة، بهدف عقد المؤتمر في أقرب وقت ممكن، وبالتحديد قبل نهاية هذا العام، بشرط أن يسبق انعقاده الإعداد له إعداداً جدياً يبشر بتحقيق الهدف من انعقاده، هذا الإعداد يوصلنا إلى التوصل إلى تسوية سلمية عادلة وشاملة خلال فترة زمنية معقولة، ويحول دون تحول المؤتمر إلى منصة للخطابة أو ساحة للمبارزة الكلامية وتبادل الاتهامات وتسجيل المواقف بقصد الدعاية.

أبرز إنجازات كارتر انفتاحه على قضية فلسطين
          ومن الإنصاف أن أقول أن الولايات المتحدة قامت بجانب كبير من هذه الجهود، وأن الرئيس كارتر كرس جزءاً كبيراً من وقته واهتمامه للمشكلة وأعطاها أولوية متقدمة على كثير من المشاكل التي تواجهه في الداخل والخارج، وتلك الظاهرة نسجلها له بكثير من التقدير لأنها تعكس رؤية ثاقبة لطبيعة الصراع وأبعاده الإقليمية والدولية والآثار التي يمكن أن تنجم عن استمراره في جميع أنحاء العالم، وفضلاً عن ذلك المسئولية الخاصة التي تتحملها الولايات المتحدة في هذا الصراع بالذات بالنظر إلى ما قدمته وتقدمه لإسرائيل من دعم عسكري وسياسي واقتصادي ودبلوماسي، ولعل أبرز إنجازات الرئيس كارتر في هذا الصدد هو انفتاحه على قضية الشعب الفلسطيني، تلك التي استطاعت إسرائيل بدعايتها الكاذبة وسطوتها المعروفة داخل المجتمع الأمريكي أن تطمسها وأن تشوه ملامحها مدة تجاوزت ربع القرن، فإذا بالرئيس كارتر يتمكن خلال شهور معدودة من رفع الغشاوة عن أعين الشعب الأمريكي ووضع القضية الفلسطينية في إطارها الصحيح، سواء في بعدها السياسي الذي يتعلق بحق شعب فلسطين في تقرير المصير وإقامة دولته على أرضه، وفي وطنه، أو في بعدها الإنساني الخاص برفع الظلم الذي حاق بأكثر من مليون فلسطيني فرض عليه قسراً وعنوة أن يعيشوا في التيه خارج أرضهم وديارهم، وربما كان الموقف الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية كما يبلوره ويعبر عنه كارتر في حاجة إلى مزيد من التطور والتنقية من الشوائب التي لا زالت عالقة به من وجهة نظرنا نحن، ولكن الحقيقة أن هذا الموقف هو أول محاولة جدية لتصحيح مسار السياسة الأمريكية وإرسائها على مبادئ واضحة بحيث يسهل فهمها والتعامل معها والتنبؤ بالمسار الذي ستأخذه في المستقبل. ونحن جميعاً نعرف أن الولايات المتحدة تقدمت في 29 سبتمبر الماضي بعد اتصالات مكثفة بالأطراف بدأت في المنطقة، في فبراير الماضي وانتهت في واشنطن في الأسبوع الأخير من سبتمبر بورقة عمل موجزة تعالج الجوانب الإجرائية المتعلقة باستئناف مؤتمر جنيف بما يتيح اشتراك الممثلين الشرعيين لشعب فلسطين في المؤتمر أسوة بباقي الأطراف، وبهذا المعنى كانت الورقة أول تقنين رسمي للاتجاهات الأمريكية الجديدة نحو القضية الفلسطينية. في الخامس من أكتوبر عادت الولايات المتحدة فصاغت ورقة جديدة تحت تأثير حملة إسرائيلية محمومة ألقت فيها إسرائيل بجميع أسلحتها المرئية والخفية على المسرح الأمري كي، واستعرضت عضلاتها بغير حياء، ورب ضد الرئيس كارتر وأعوانه بقصد إج بارهم على الارتداد إلى موقف التأييد المطلق لإسرائيل، أخطأت أم أصابت، كما فعل جونسون، وعدم السير خطوة واحدة أبعد من الموقف الإسرائيلي، كان طبيعياً في ظل هذه الظروف أن تكون لنا ملاحظاتنا وتحفظاتنا على ورقة هذا شأنها، ومن ثم فلم نتردد عندما أبلغنا بها في الرابع عشر من أكتوبر، لم نتردد في وضع ملاحظاتنا ومآخذنا عليها أمام الجانب الأمريكي بكل صراحة وأمانة وبكل ولاء للهدف القومي الذي لا نحيد عنه قيد أنملة، ووفاء لأبناء هذه الأمة وأرواح شهدائها الأبرار، في هذه الأثناء صدر بيان سوفيتي أمريكي مشترك في مطلع شهر أكتوبر تعرض للجوانب الموضوعية للتسوية السلمية، ونحن بطبيعة الحال لا ننظر إلى هذه البيانات كأنها تنزيل من العزيز الحكيم، وإنما نضعها في إطارها الصحيح إعلاناً عن النقطة التي التقت حولها آراء ومصالح الدولتين الأعظم اللتين تحتلان مكانة خاصة على الصعيد العالمي بحكم نفوذهما السياسي والاقتصادي والعسكري، ولكنهما لا تستطيعان في الربع الأخير من القرن العشرين إملاء إرادتهما على أحد.

          ثم أننا على أي حال نعتبر من الظواهر الإيجابية أن توجه الدولتان العظميتان اهتمامهما إلى مشكلة الشرق الأوسط باعتبارها مشكلة ملحة وعاجلة يجب إعطاؤها أولوية قصوى على كل ما عداها، نتيجة لكل هذه الاتصالات والخطوات أصبح الطريق أمام مؤتمر جنيف مفتوحاً على أسس جديدة تختلف بالضرورة عن التصورات الإسرائيلية، وأصبح لدينا ما يدعونا إلى الاطمئنان إلى توفر أهم العناصر التي لا غنى عنها لصحة انعقاد المؤتمر وسلامة الاتجاه الذي يأخذه. وأشير بالذات إلى نقطتين أساسيتين:
الأولى: تمثيل الشعب الفلسطيني، تمثيلاً حر وحقيقي لا دخل لإسرائيل به ولا يد لها فيه.
الثانية: بحث القضية الفلسطينية بشقيها السياسي والإنساني في الإطار السليم بعيداً عن ضباب الغموض.
          وإذا كان الطريق إلى المؤتمر قد أصبح مفتوحاً إلى حد كبير فانه يبقى علينا أن نعد له إعداداً كافياً وبكل جدية وبكل شعور بالمسئولية، لا باعتباره نهاية المطاف، فما هو بذلك، وإنما على أساس أنه فرصة تاريخية سانحة لإجبار إسرائيل على التخلي عن الأرض المحتلة وعن أحلام التوسع وعن الوقوف في وجه حق الشعب الفلسطيني في الحياة عزيزاً كريماً في وطنه كسائر الأمم والشعوب، والكشف عن وجهها الحقيقي على مشهد ومسمع من العالم.

لا نخشى مواجهة إسرائيل بعد وضعها في حجمها الصحيح
          ويهمني ونحن نقترب من تلك المرحلة الدقيقة أن أضع أمامكم وأمام الأمة العربية الخطوط العريضة التي نهتدي بها في تحررنا:
أولاً: أننا لا نخشى على الإطلاق أية صورة من صور المواجهة مع إسرائيل، فقد وضعناها في حجمها الصحيح دون مبالغة ترفعها إلى مصاف القوى الجبارة القادرة على أن تقول للشيء كن فيكون، أو استهانة سهلة تجعلنا نظن أنها كيان هزيل لا حول له ولا قوة. إنما انكمشت إسرائيل بعد حرب رمضان المجيدة إلى حجمها الطبيعي، فأصبحنا نراها كياناً يمكن وقفه عند حده وردع عدوانه، ومهما أوتيت إسرائيل من قوة وسطوة فيما وراء الحدود ومهما كانت الشبكات التي تعمل لحسابها وتأتمر بأمرها على المسرح الدولي، فلدينا نحن من عناصر القوة ما يفوق كل ما تستطيع إسرائيل أن تعبئه في أي مواجهة، كما أن لدينا من الرصيد الحضاري والنضالي ما يمكننا من الصمود عسكرياً وسياسياً ونفسياً ولدينا من الدراية بالخصم وأساليبه ما يضمن لنا التغلب عليه في أي مجال، ثم أن لدينا قبل هذا وذاك إرادتنا الحرة القادرة على حماية مصالحنا والتمييز بين ما يمكن أن نقبله وما يجب أن نرفضه، نحن نقبل ما نقبل ونرفض ما نرفض من واقع رؤيتنا للهدف وإصرارنا على بلوغه، لا تحت ضغط الخوف أو فقدان الثقة أو عدم اليقين. كل هذا وفي معركة أكتوبر، ثم أننا في هذا الموقف أو ذاك لا نستلهم سوى قيمنا الخالدة وتراثنا العريق وعزة وطننا.
ثانياً: أننا في كل تحركنا نحرص على أن نوفر للأمة العربية أقوى وأمضى أسلحتها، وهو التضامن العربي الحقيقي، ذلك الذي هو تعبير عن الإيمان بوحدة الهدف والمصير وبوحدة المصلحة والخط الاستراتيجي، وان اختلفت الاجتهادات والظروف التي يراها كل منا مؤدية إلى الهدف. وليس سراً أنني حرصت على إقامة التضامن العادل والحفاظ عليه منذ اليوم الأول الذي كلفني فيه الشعب بتحمل المسئولية، وحين كان هناك من يشككون أو يتشككون في إمكان قيام التضامن في عالم الحقيقة والواقع. وكان هناك من يصرون على تصنيف أمتنا ما شاء لهم الخيال أن يصنفوا، ويتفننوا في إيجاد عوامل التفرقة وأسس الخلاف، هذا تقدمي وهذا رجعي وهذا ملكي وهذا جمهوري، كان هناك إصرار تام من جانبي على رفض كل هذه الدعاوى ولا زلت، وكان هناك إصرار تام أيضاً ولا يزال من جانبي على إزالة الاستقطاب الذي كان قائماً في العالم العربي، وعلى هذا فليس هناك من يحرص على التضامن العربي أكثر من حرصنا عليه، ولا من يؤمن بوجوب تنسيق الموقف العربي مثلما نؤمن به ونجاهد في سبيله.

          وفي هذا المجال يسعدني أيها الأخوة والأخوات أن أقول لكم.. أنني في جولتي التي زرت فيها رومانيا وإيران والمملكة العربية السعودية كان هدفي أيضاً هو التنسيق.. ولقد استقبلت... ونسعد جميعاً بمشاركة أخ عزيز.. وصديق نضال رائع هو الأخ ياسر عرفات الذي يجلس معنا.. في المملكة العربية السعودية، كان هناك تنسيق كامل مع الأخ ياسر عرفات.. قائد منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي الوحيد لشعب فلسطين.. كان هناك أيضاً تنسيق.. واستمرت لقاءاتنا أيضاً في هذا اليوم وقبل أن أتي إليكم مباشرة، اتصل بي أخي حافظ الأسد تليفونياً.. وقد اتفقنا على أن أزوره إن شاء الله بعد أن أنجز بعض الأعمال الملحة لكي نتدارس أيضاً أمر التنسيق والالتزام العربي في أروع صوره وأشكاله.. لا شك أننا قرأنا جميعاً بكل الأسى والإشفاق ما يجري اليوم بين الجزائر والمغرب.. والجزائر والمغرب شعبين شقيقين، وكما قلت لكم كان دائماً هدفي منذ أن تسلمت المسئولية بإرادة هذا الشعب أن أعمل على التضامن العربي في كل صورة.. المشكلة الماضية حينما كانت المواجهة أمراً يكاد يكون حتمياً بين المغرب والجزائر، كما تعلمون أوفدت نائب الرئيس حسني مبارك حيث قام بجهد مشكور ورائع أمكننا بفضله أن نوقف.. أو أن نتجنب هذه المواجهة بين شعبين شقيقين لنحارب معركتنا معاً.. اليوم لا شك كما قلت أننا جميعاً قرأنا بأسى ما استجد بين الشعبين، ولذلك فإنني أخطركم جرياً أيضاً على السياسة التي أخذت نفسي بها.. وهو إقامة أصلب وأروع تضامن عربي مهما كانت الخلافات.. أقول لكم أنني سأوفد إنشاء الله باكر نائب رئيس الجمهورية لكي يقوم عنكم وعن مصر بالعمل بين المغرب والجزائر لكي نتفادى أية مضاعفات للتضامن العربي.

مصر حاضرة دائماً من أجل التضامن العربي
          يجول في الساحة العربية اليوم أمر آخر هو عقد مؤتمر قمة.. وكما قلت لكم أن مصر لا تمانع أيضاً.. بل ترحب باللقاء العربي وبالتضامن العربي.. وبالأخوة العرب.. ولكن أخشى أن يكون هذا اللقاء في هذا الوقت سابقاً لأوانه، بمعنى أننا قد اتفقنا في آخر مؤتمر قمة عربي في الرباط، ثم كان المؤتمر الذي عقد في القاهرة في استراتيجية عربية ثابتة.. يعني تعبر عن مبدأين:
المبدأ الأول: هو الأرض العربية المحتلة بعد عام 1967.
والأمر الثاني: هو عدم المساومة على حق شعب فلسطين وحقه في تقرير مصيره وإقامة دولته، وأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.

          أخشى إذا ما دعي البعض إلى عقد مؤتمر قمة أن لا يكون هناك جديد لأننا كما حكيت لكم الآن بصدد الإعداد لجنيف، ولم يحدث شئ جديد والتزامنا بالاستراتيجية العربية قائم.. ولكن على كل الأحوال إذا ما أراد الأخوة العرب عقد هذا المؤتمر، فمصر أبداً لا تمانع.. بل أن مصر تعتز دائماً بأن أول مؤتمر قمة عربي كان على أرضها.. وأن الجامعة العربية على أرضها، وأنها حاضرة في كل زمان ومكان من أجل التضامن العربي ومن أجل الأخوة العربية.

          إذا كان التضامن العربي ضرورياً لازماً بين جميع أبناء الأمة العربية، فانه فريضة أشد ضرورة فيما بين من يتحملون مسئولية مباشرة في المواجهة مع إسرائيل. ولذلك فإننا لا ندخر جهداً في سبيل التنسيق مع شركائنا في خط المواجهة ونتبادل معهم الرأي والمشورة في كل ما يؤثر على القضية إيجاباً أو سلباً. وسوف يظل هذا خطنا على الدوام.. حكيت لكم عن لقائي بالأخ ياسر عرفات الذي نسعد بوجوده معنا اليوم والحديث التليفوني الذي جرى بيني وبين الرئيس حافظ الأسد اليوم، ثم منذ يومين لقائي بالأخ الملك حسين هنا أيضاً للتنسيق والعمل على توحيد الموقف العربي، خاصة وقد اتفقنا على أن يكون ذهابنا إلى جنيف في وفد عربي موحد يستلزم أن ننسق جميعاً خطواته.
نقلنا التمزق إلى إسرائيل بعد حرب أكتوبر:
ثالثاً: أننا في كل تحرك نقوم به وكل خطوة نخطوها يجب أن نركز على الجوهر ولا ننصرف عنه إلى الاهتمام بالشكل أو التحجر في القوالب الجامدة التي لا تمس صلب القضية ولا تؤثر على مصلحة النزاع، وإذا كان التاريخ خير معلم، فإن صفحاته تنبئنا بأن الثوريين الحقيقيين هم الذين يحددون الهدف أمامهم واضحاً ويسعون إليه مهما كلفهم ذلك من تضحيات، دون أن يتوقفوا أمام الشكل أو يحولوا أنظارهم عن جوهر القضية التي يكافحون من أجلها إلى الأشكال والقوالب والصيغ التي لا تتصل بالموضوع، وتتحقق هذه الظاهرة بدرجة أكبر كلما كانت القضية عادلة، لأن مثل هذه القضية يكون من الصالح ألا يتوقفوا عند الشكل أو أن يضيعوا وقتهم وجهدهم في مناقشات عقيمة حوله. ولذلك فقد ألينا على أنفسنا ألا نتوقف أكثر مما ينبغي عند الأمور المتصلة بالإجراءات والشكل، وأن نفوت على إسرائيل غرضها ونرفض أن نلعب لعبتها، بل أن نفرض عليها مواجهة شاملة تنفذ على الفور إلى صميم الموضوع ولُبَّه، بحيث لا يمضي وقت إلا وقد توغل البحث في أساس النزاع ومصدر الصراع، الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية إهدار لحقوق شعب فلسطين، كل هذا يجب أن ننفذ إليه بلا هوادة. عندئذ لن يستطيع أحد أن يطلب إلينا أو أن يعرض علينا ما لا نراه محققاً لهدفنا كاملاً لأننا في تحديد هذا الهدف لم نكن مغالين أو متجنيين، بل أننا التزمنا فيه بشهادة الجميع بالشرعية الدولية وحكم القانون وما أرسته جماعة الدول المتمدينة فيصلاً بين الحق والباطل والصواب والخطأ. وهنا نقف وقفة بسيطة لكي أقول لكم حكيت لكم عما أرسلته أمريكا الورقة الأولى ثم الورقة الثانية. ومن جانب إسرائيل نلاحظ أنه بيتلقوا هذه الأمور بنوع من العصبية والهستيرية لماذا؟ لأننا نقلنا فعلاً كل عوامل التمزق وكل ما كنا نعانيه قبل معركة أكتوبر، نقلناه بعد معركة أكتوبر إلى إسرائيل، لدرجة كنت أتحدث إلى بعض الصحفيين في الطائرة أثناء عودتي من الرحلة الأخيرة. وكنت أحكي لهم عن تاريخ الخطوات لعقد مؤتمر جنيف من ضمن هذه الخطوات أنه لما كان فانس يزورنا هنا في الصيف الماضي اقترحت تكوين لجنة عمل، حكيت هذا الأمر، أنه اقترحت وقت الصيف. بعد ذلك سافر فانس ورجع و... و ولم يكن هذا اقتراح أتقدم بيه على الإطلاق، أنا أبداً ولكن إخواننا الصحفيين فهموا أن ده يمكن يكون اقتراح، قاموا خرجوا بيه إسرائيل في الحالة الهستيرية والعصبية ومجلس الوزراء الإسرائ يلي يجتمع ويدرس اقتراح السادات و... و... و وبعدين بعد ساعات طلع لهم أنه ما فيش اقتراح ولا حاجة إطلاقا، ده أنا بأحكي التاريخ قديم بقالوا ستة أشهر ومفيش اقتراحات جديدة، بنوري نوع من العصبية لدى الإسرائيليين.

          أنا حكيت هذا كان هنري كيسنجر ونحن نتفاوض عن فض الاشتباك الثاني في سبتمبر 75 يسافر من تل أبيب إلى الإسكندرية حيث كنت موجود، ويلتقي بيه علشان تغيير كلمة أو شكلة أو حرف أو جملة، لدرجة في مرة من هذه المرات قلت له شئ عجيب يعني هذا الكلام لا يساوي ثمن الوقود اللي انت بتستهلكه من تل أبيب إلى إسكندرية، لكن هذا هو شأنه الإسرائيليين هو شأنهم.
لا ضياع أبداً ونحن أصحاب القرار:

          سمعتوني الآن بأقول نحن لا نحفل أبداً بكل الأساليب الإجرائية وأقولها صريحة أمامكم لشعبنا وللأمة العربية وللعالم أجمع.. نحن مستعدون للذهاب إلى جنيف والجلوس من أجل قضية السلام، بغض النظر عن كل تلك الدعاوى الإجرائية التي تتمسح بها إسرائيل وتريد أن تضيع علينا الفرصة أو أن تثير أعصابنا لكي نقول كما كنا نقول في الماضي لا.. لا نريد ولا نذهب وتخرج هي إلى العالم بأنها داعية السلام.. أبداً أي عملية إجرائية أنا موافق عليها، ليه؟ في النهاية لما نروح جنيف.. عندما نذهب إلى جنيف لن تستطيع إسرائيل أن تمنعني من أن أتمسك بالأرض المحتلة بعد 67.. الأرض العربية.. لن تستطيع إسرائيل ولا أي قوة أن تمنعني أن أطالب بالحقوق المشروعة وحق تقرير المصير وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم.. هذا هو ما تريد إسرائيل أن تتجنبه بمحاولة اللعب عن طريقة عملية الإجراءات بزيادة كلمة أو نقص كلمة أو إعلان يصدر عن اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي، ويحاولوا به أن يثيروا الأمة العربية كما كانوا يفعلوا في الماضي، فتنهار الأعصاب والبعض تصيبه التشنجات ونخرج ونقول لا نريد أن نذهب إلى جنيف.. لا.. أبداً.. أنا أمامكم وأمام شعبنا وأمام الأمة العربية لا تهمني العمليات الإجرائية على الإطلاق، فلتكن الإجراءات وليكن انفعال وهستيرية إسرائيل ما تكون.. أنا ذاهب إلى جنيف، وكما قلت لن تستطيع لا إسرائيل ولا قوى العالم مجتمعة أن تثنيني عما أريد.. الأرض العربية في 67.. حقوق شعب فلسطين وحقه في قيام دولته.. ما دام هذا.. أو ما دامت هذه هي قناعتي الذي يخشى جنيف هي إسرائيل.. لا يجب أن يخشى جنيف أي عربي أبداً ليه؟ لأنه إحنا صدرنا زي ما قلت لكم.. كما قلت صدرنا التمزق.. صدرنا الخوف.. صدرنا الانهزامية.. صدرنا الشك والريبة.. كل اللي كنا بنعيشه صدرناه إلى المجتمع الإسرائيلي.. فلما نعيده لأنفسنا تاني.. ليه؟.. أبداً.. أنا جاهز أذهب إلى جنيف، بل لا أخفيكم وأنتم ممثلو الشعب وعلى مسمع من شعبنا وعلى مسمع من أمتنا العربية.. سمعتموني أقول أنني مستعد أن أسافر إلى آخر هذا العالم إذا كان في هذا ما يحمي أن يجرح مش يقتل.. أن يجرح عسكري أو ضابط من أولادي.. أنا أقول فعلاً مستعد أن أذهب إلى آخر هذا العالم، وستدهش إسرائيل حينما تسمعني الآن أقول لا نرفض.. إنني مستعد أن أذهب إلى بيتهم إلى الكنيست ذاته ومناقشتهم.

          أحمد الله... أيها الأخوة والأخوات أعضاء مجلس الشعب.. لا وقت ولا ضياع أبداً ونحن أصحاب القرار ولا قرار إلا بإذن الشعب، والشعب يريدنا أن نتجه إلى الأمام لكي نعوض ما فات وما فاتنا كثير.. الشعب يريدنا أن نعمل بأكثر مما نتكلم.. الشعب يريدنا أن نعطي كل العرق لبناء الغد الجديد، فلا فائدة من تنابذ على ماضي ذهب وولى أو بكاء وتباكي على أنقاض تراكمت وزحمت الطريق. فإن إرادة العمل قادرة دائمة على تعبيد الطريق.. قادرة دائما وبعرق الإنسان على تحويل الأنقاض إلى مساحات بناء وعمران.

          إن التأثير الإيجابي على الحياة اليومية للجماهير سيراً لحقها في الخدمات وتوفيراً لحقها في عائد عادل لجهدها هو الكلمة الوحيدة التي تقبل الجماهير سماعها، لأنها ترجمة للكلمة بالعمل، والعمل المنتج الملموس هو وحده البذرة الصالحة لنمو الأمل الصادق في صدور الجماهير.. والأمل الصادق ليس صيحات زيف وخداع أو شعارات تبرير وتخدير.. الأمل الصادق هو حلم الثائر يريد له الثائر أن يتحقق وهو المنار المشرق لخطى العمل.
          أحمد الله فالمستقبل كله أمل.. سمعتم عن رحلتي التي سأقوم فيها بزيارة لمحافظات من الجمهورية.. وأريد أن أقرر أمامكم هنا أنني سأحرص على أن أوفر في هذه الرحلة الأرض وستبدأ بمليون فدان إنشاء الله لكي توزع على أبناءنا.

          بدأنا والحمد لله.. مدينة عشرة رمضان اليوم تنار، ولو أنه يبقى شهرين فقط ويبدأ فيها العمل.. ولكن استخرجت المياه ووصلت الكهرباء والنور، وبعد شهرين فقط أي قبل نهاية هذا العام يبدأ الذين تملكوا فيها هناك استلام أراضيهم وبدء البناء.. مصانع البيوت الجاهزة وصلت.. التركيز على الطعام، كما قلت لكم بكل بقوة وبكل تركيز مستمر.. أعدكم أنه في منتصف العام القادم إنشاء الله ستكون الإنجازات واضحة في هذين المجالين، وهما مجال الطعام والإسكان.. أعدكم أن في رحلتي المقبلة أن أبني الأمل لكل مواطن في هذا البلد لكي يبني حياته.. ولكي يتملك من أرضنا الطيبة.. أرضنا وهي أنبل ما في مصر.. لكي يتملك جزء من هذه الأرض فيحس دائماً بالانتماء في كل النواحي. أتابع برغم كل ما أقرأه.. أتابع الإنجاز اللي بيتم بواسطة الحكومة في كل المرافق التي أهملت، كالتليفونات وغيرها.. وكيف أنه أحدث ما في العصر الآن يستخدم لإزالة كل هذه المعوقات، المسألة كلها أنه في وقت قصير على الحكومة أن تقوم بأعمال لا يتصورها العقل، ومع ذلك أحمد الله من متابعتي وقد طلبت أن تطلعوا أنتم.. ويطلع الشعب على كل هذه الخطوات حتى نعرف أننا بحمد الله نسير في الطريق السليم.. وأن الأمل مشرق.. إننا بسبيل أن نجتاز عنق الزجاجة التي نحن فيها الآن.. وبمجيء سنة 1980 إنشاء الله بنبدأ مرحلة الانطلاق من أجل رخاء كل مواطن ومن أجل تحقيق رفاهية كل إنسان على هذه الأرض.

          كلمتي إليكم.. ونحن على مشارف دورة عمل جديدة.. كلمتي إليكم.. ازرعوا الأمل.. افتحوا طاقات النور.. اطردوا الأحقاد وصانعة الشر والشرور.. بشرط العمل.. بشرط بالإيمان.. بشرط بالحب.. بالعمل وبالإيمان وبالحب نصنع الخير ونبني أمجاد الحياة.

سورة آل عمران، آية 8 رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.

                               والسلام عليكم ورحمة الله،،،

------------------------