إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء

         



(تابع) خطاب الرئيس أنور السادات، في افتتاح المؤتمر القومي للاتحاد الاشتركي العربي، 22 / 7 / 1975
المصدر: "قال الرئيس السادات، الجزء الخامس 1975، السكرتارية الصحفية لرئيس الجمهورية، ط 1982، ص 190 - 200"

أو الموت .. كان الجيش هو العصا الغليظة فى يد السلطة تهدد بها الشعب فكان الطريق الذى اخترناه هو انتزاع العصا الغليظة من يد السلطة البائدة، ووضعها في يد الشعب وسرنا في هذا الطريق المحفوف بأخطر المخاطر سنة بعد سنة دون خوف أو كلل أو يأس، وكانت هى الطريق التى حملتنى صباح يوم 23 يوليو سنة 1952 إلى دار الاذاعة لأذيع منها على الشعب كله أول بيان عن قيام الثورة وكان رد الفعل الشعبى الكاسح صبيحة 23 يوليو هو الذى قضى في الأمر وأسقط النظام القديم وأعطى السلطة الجديدة شرعيتها الثورية. إن كل بلد فى العالم له يومه المجيد الذى يحتفل به عاما بعد عام، ويوم 23 يوليو سنة 52 سيظل من أنصع صفحات تاريخنا ومن أكبر أحداث حياتنا وحياة المنطقة العربية بل والعالم الثالث كله.

         والثورة بمعناها الحقيقى ليست حدثا عابرا، انها حدث نادرا لا يقع إلا قليلا، والثورات لا تتم وكأنها تجربة في معمل كيميائى انها تهز المجتمع كله ويختلط فيها تراب كثيف بل وضحايا خلال عملية الهدم والبناء ولكن المهم فى تقييمها هو الحساب الختامى لها وأثرها الشامل على حياة الأمة فشعب فرنسا مثلا يحتفل كله بكل فئاته الاجتماعية بعد أكثر من مائة سنة بذكرى ثورية فى 14 يوليو وهم يعرفون ما وقع فى الثورة من ضحايا ومظالم واضطرابات دامية ولكنهم بكل ميولهم السياسية المختلفة يعرفون أن هذه الثورة فى النهاية هى التى فصلت بين فرنسا الاقطاعية الارستقراطية القديمة وفرنسا الحرية والاخاء والمساواة.

أبعاد الثورة الشعبية

         وثورتنا غيرت نهائيا حياة مصر وأغلقت إلى الأبد صفحة كانت قد انتهت.. ثورتنا التى كانت أول محاولة تغيير عميق فى العالم الثالث كله وصارت بعد ذلك قدوة العشرات من البلاد والدول.. ثورتنا هذه وقعت بأقل قدر من العنف عرفته الثورات كلها.. وبتضحيات لا مفر منها لأن الثورات عادة تواجه بمقاومة عنيفة من قوى الجمود والاستغلال ومن قوى داخلية وخارجية وأية ثورة جديدة بهذا الاسم عليها ان تتصدى لهذا بحزم أو أن تنكص على أعقابها وتفشل وكما أن للحياة العادية قوانينها فان للثورات أيضا قوانينها.. من ينكر الثورة ليس أمام الثورة سوى أن تنكره، ومن يقاوم الثورة ليس أمام الثورة إلا أن تقاومه، من يعترض على التغييرات الأساسية التى قامت الثورة من أجلها من واجب الثورة أن تنحيه.. ولكن لن تنجح الثورة أبدا بالقوة وحدها لأننا رأينا فى العالم استخدامات كثيرة للقوة بحيث أصبحت بعض الثورات مجرد انقلابات عابرة أما الثورة فهى القوة مدعمة بتأييد جماهيرى شامل، ومن ينكر أن جماهير الشعب فى أغلبيتها الساحقة القريبة من الاجماع، من ينكر اليوم أن هذه الجماهير كانت تؤيد عزل الملك واخراج الانجليز وتحديد الملكية الزراعية وتأميم قناة السويس.. وتمصير البنوك والشركات الكبرى، والبدء فى اقامة قطاع عام يقود حركة التصنيع.. تلك هى شرعية الثورة وأقول هذا لمن يتحدثون اليوم عن الشرعية من خلال أوضاع ما قبل الثورة، أى الأوضاع التى قامت الثورة لاسقاطها.

         إنه من السهل اليوم البحث عن أخطاء كثيرة وقعت هنا أو هناك، ولكن التعليق بعد عشرين سنة سهل وهو غير التصرف فى ظروف اتخاذ القرارات والاجراءات تماما كالمعركة الحربية، من السهل على معلق أن يأتى بعد سنوات ويقول ان قيادات القتال أخطأت فى كذا وكان أفضل لو فعلت كذا.. ولكن القيادات في غبار المعركة الكثيف وفي خلال القتال والتلاحم العنيف.. وحين يكون احتمال الهزيمة أو النصر معلق بخيوط واهية.. هذه القيادات تواجه ظروفا أخرى فى اتخاذ القرارات والتصرف ازاء الأحداث والأخطار.. غير ظروف الناقد المستريح بعد عشرين سنة.

         وفي إيجاز أكرر ما قلته فى ورقة أكتوبر من أنه مهما يكن من شأن الأخطاء التى وقعت فى التطبيق، فانها تهون بلا شك متى أدركنا أن الثورة بتلك الاجراءات قد أنقذت البلاد من الصدام الطبقى العنيف الذى شهدته وتشهده بلاد كثيرة، بل اننى لا أغالى اذا قلت أن الثورة أنقذت البلاد من الحرب الأهلية.

الفرق بين جوهر الثورة وبين الاجراءات الاستثنائية

على أننى أحب أن أضيف هنا أن الاجراءات الاستئنائية التى تقتضيها كل ثورة.. من الخطأ أن تطول أكثر من الوقت الذى تستلزمه.. انها حين تبقى أطول من ضرورتها تبدأ فى الفتك بجسد الثورة ذاتها.. قبل أن تفتك بأى شئ آخر لأنها تقلل من ثقة الجماهير بأهداف الثورة وتنفرهم منها.

         ونحن نرى اليوم بعض مدعى الناصرية فى العالم العربى لا يفهمون الفرق بين جوهر الثورة وبين اجراءاتها الاستثنائية، انهم يظنون أن الاجراءات الاستثنائية هى الثورة ويأخذون زوالها على أنه زوال للثورة فى حين أن زوالها كما قلت مرارا دليل على وصول الثورة الى بر الأمان والاستقرار.

         لقد كان عبد الناصر من أكثر الزعماء الذين هوجموا طيلة حياتهم ونضالهم السياسى، كانت الهجمات تأتيه أحيانا من أقصى اليمين، ومن المقاومين للتغيير من الذين اختاروا صف الاستعمار، عندما كنا نقاوم الاستعمار ونطارده من المنطقة العربية وأفريقيا.

         وكانت الهجمات تأتيه أحيانا أخرى من أقصى اليسار حين كان يفرق بين حركتنا للتحرر الوطنى، ولاقامة الاشتراكية، وبين رفضنا فى نفس الوقت للأخذ بنظم أخرى مختلفة والانتقال من نفوذ إلى نفوذ.. والأمثلة كثيرة، فى سوريا مثلا.. عبد الناصر أرسل قوات مصرية إلى سوريا سنة 57 حين زاد ضغط حلف الأطلنطى عليها وهددها بالغزو فهوجم عبد الناصر من كل قوى الاستعمار ومن يسانده، وعندما اقتضت ظروف الوحدة حل الأحزاب فى سوريا هوجم من أقصى اليسار بسبب حل الحزب الشيوعى السورى فى ذلك الوقت.

<3>