إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء

         



(تابع) خطاب الرئيس أنور السادات، في افتتاح المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي العربي، 22 / 7 / 1975
المصدر: "قال الرئيس السادات، الجزء الخامس 1975، السكرتارية الصحفية لرئيس الجمهورية، ط 1982، ص 190 - 200"

          وفى العراق هوجم عبد الناصر فى عهد نورى السعيد لأنه تصدى لاسقاط حلف بغداد الذى كان استعمارا من نوع جديد.. وهوجم فى عهد عبد الكريم قاسم لأنه وقف ضد تحول العراق إلى النظام الشيوعى، ولم يكن هذا تدخلا فى شئون هذا القطر أو ذلك، بل كان موقفه فى الحالتين يستقطب تأييد أوسع الجماهير العربية كلها لأننا كنا متمسكين بحرية ارادة الأمة العربية وبعدم تقسيمها كما قسمت أوروبا بين شرق وغرب، الأمر الذى يقضى على كل مستقبل للوحدة العربية والتضامن العربى والذى كان يمكن أن يجعلنا مثل جنوب شرق آسيا ساحة قتال بين قوى خارجية عن المنطقة لمصالح غير مصالحها.

          وعندما قبل عبد الناصر مشروع روجرز هوجم أشرس هجوم، ولكن الهجمات تبددت لأنه كان يتقدم متحملا المسئولية واثقا من تعبيره عن ضمير الأغلبية الساحقة وكان من السهل على عبد الناصر أن يوفر على نفسه هذه المعارك لو أنه آثر الرضوخ للأحداث تماما كما أنه من السهل علينا الآن أن نوفر على أنفسنا الحملات المسمومة لو أننا اخترنا عدم الحركة، وترك القضية تتجمد.. والزمن يمضى لصالح اسرائيل مكتفين بسياسة تسجيل المواقف الاعلامية والمزايدة، ولكننى أدرك كما كان يدرك عبد الناصر أن دور القيادة هنا فى القاهرة أن تتصدى للمسئوليات.

          ان دور القيادة هنا فى القاهرة، هو أن تتصدى للمسئوليات وأن تتلقى فى صدرها السهام، وان اقتضى.. في ظهرها الطعنات.. طالما اننا نتحرك بدافع من حرص على المصالح العربية العليا واننا نعبر عن رأى الأغلبية الساحقة واننا لا نفرط فى أى حق عربى وطالما اننا واثقون أن الزمن سيثبت جدوى نضالنا وعقم نباح الآخرين.

نفس الشئ ينطبق على تجربتنا الداخلية.. اننا لم نعلن الاشتراكية ليلة 23 يوليو بل مررنا بمراحل تطهير البلاد من الاحتلال ثم استرداد سيادتنا على قناة السويس ثم تمصير البنوك والشركات الكبرى التى كان يملكها الأجانب.. يسيطرون على حياة البلاد.

وحين اخترنا الاشتراكية اخترناها بارادتنا الحرة ومضينا فى طريقها مهتدين بظروفنا الخاصة غير خاضعين فى ذلك لا لفكر أجنبى ولا لتجارب أخرى محددة وقلنا انها اشتراكية عربية خالصة نابعة من واقعنا، والفكر الاجتماعى ليس ملكا لأحد والتجارب الاجتماعية ليست قوالب مصبوبة تصلح لكل مجتمع، وليس أدل على فكرنا المفتوح فى هذا المجال من أن الميثاق حين قدم للشعب أسماه عبد الناصر دليل العمل الوطنى، وقال انه للسنوات العشر التالية.. ثم يعاد النظر فيه، ورفض عبد الناصر تماما أن يضع ما يسمى بنظرية ثابتة رغم نضج تجربتنا الوطنية فى ذلك الوقت، ولم يفعل كما فعل من يحاول فرض نظرية باسمه على شعبه وعلى العالم وتجربته فى النضال ما تزال ضحلة قصيرة الأجل.

          هذه هى الناصرية أو ما كان عبد الناصر يسميه ونسميه معه تجربتنا المصرية الوطنية.. لا نفرضها خارج حدودنا ولا نقيدها بقيود تجمدها، كان هذا فهم عبد الناصر ورفاقه للأمور.

          وكنا لا نكف عن رصد التغيرات الاقليمية والعالمية لكى نطور من تجربتنا على أساسها. فالتجارب والنظم الاجتماعية لا تقوم فى فراغ.. ولا يمكن عزلها عن التأثر بما يحيط بها من تغيرات وأحداث.. وكل دولة فى عالم اليوم تعيد النظر فى سياستها على ضوء انتهاء عهد الحرب الباردة، وبدء عهد الوفاق والتهدئة، واختلاف الاجتهادات داخل كل من المعسكرين وبالتالى تبذل صور العلاقات السياسية والاقتصادية بين الدول.

          من كان يصدق مثلا منذ عشرين سنة أن عداء الصين وروسيا سيكون أشد من عدائهما من أمريكا! ومن كان يصدق أن المال الأمريكى والأوروبى واليابانى سيساهم فى تعمير سيبيريا؟ وأن روسيا قامت فعلا ببرامج مشتركة مع أمريكا فى الفضاء الخارجى منذ أيام قليلة! هذا الفضاء الذى كان ساحة منافسة حادة بينهما. من كان يصدق أن الغرب الذى رآنا أول من يكسر احتكار السلاح وتشتريه من الاتحاد السوفيتى لرفض الغرب تسليحنا.. من كان يصدق أن الغرب- وقد رأى أنه لن يحرم العرب من السلاح- بات يتسابق على تسليح العرب! .. من كان يتصور- من 20 سنة- نمو البترول العربى والمال العربى على هذا النحو الذى نراه.. من كان يصدق قبل عشرين سنة بل قبل سبع سنوات بل قبل سنتين اننا نستطيع أن نواجه إسرائيل فى معركة عسكرية بأحدث الأسلحة التكنولوجية ونهزمها ونغير بالتالى كل تصورات العالم عن مستقبل المنطقة؟..

          أسئلة كثيرة أطرحها وأطرح فى نهايتها سؤالا هاما، أى عاقل يتجاهل اليوم كل هذه التحولات ويفكر بعقلية ظروف عشرين سنة مضت.

          إننا نحن أبناء ثورة 23 يوليو نمضى فى طريقنا مسترشدين بما استرشدنا به دائما غير مبالين بصيحات العاجزين عن الفكر البناء أو النضال المفيد أولئك الذين يخوضون المعارك فى غير ساحاتها الفعلية كطريقة للتهرب من المسئوليات الحقيقية..

أيها الأخوة والأخوات:

          كلكم تعرفون الظروف التى توليت فيها المسئولية والتركة التى تحملتها ولا أريد أن أروى هنا كثيرا من التفاصيل ربما سبق لى الحديث عنها.. ولكن يهمنى فى هذه المناسبة وفي سباق هذا العرض التاريخى أن أسجل الاعتبارات السياسية التى كانت توجه تفكيرى، كان ماثلا فى ذهنى وكان مترسبا فى أعماقى كما هو مترسب فى أعماق كل دارس لتاريخ بلاده كل تلك المراحل السابقة على الثورة وما كان فيها من نضال مستمر من أجل الدستور الذى هتفت له جماهير عرابى والحياة الديمقراطية التى طالب بها الشعب وخيبت فيها الأحزاب القديمة، والقصر، والانجليز، آماله.. حتى اندلعت الثورة وكان فى ذهنى أن ثورة 23 يوليو التى قمنا بها أو التجربة الوطنية التى مارستها.. قد أزاحت عن طريق شعبنا عقبات المجتمع الاستعمارى الاقطاعى الذى عاش فى ظله قرونا طويلة وردت للجماهير الواسعة بعض حقوقها التى حرمت منها وبذلت جهد سباقا في تذويب الفوارق الاجتماعية وفى الاجتهاد في تصور صيغ سياسية شتى توحد جهود الشعب فى خطة طموحه للتنمية.

<4>